جريدة الإتحاد - 2/18/2025 11:17:31 PM - GMT (+4 )

(78) مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيْهِ * مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ
الهَوَانُ: الهُونُ وهوَ الخِزْيُ. قال تعالى: (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الهُونِ)؛ أَي العذاب المُخزي. والهُونُ والهَوانُ: نَقِيضُ العِزِّ، هانَ يَهُونُ هَوَاناً. وقولهُ (مَنْ يَهُنْ): أَي الذِي يَرْضَى لنَفْسِهِ الإِهَانَةَ. (يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيْهِ): إذا قَبِلَ بالإِهَانَةِ، صَارَ الهَوَانُ - وهُوَ مَصدَرُ الإهانَةِ وأُسُّهَا- سَهْلاً عَلَيْهِ، فَلَا يضِيقُ بِهِ، ولَا يَتَأَذَّى مِنْهُ، بَلْ يَسْتَقبِلهُ بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ، ويُصبِحُ الخِزْي مَقبُولاً لَدَيْهِ، وذَلِكَ لأَنَّ نَفْسَهُ صَارَت دَنِيئةً، يُنَاسِبُهَا دَنِيء الأَحوَالِ، كَفانَا اللهُ الشُرُورَ. إِنَّ المرءَ إذا رَضِيَ الهَوانَ لِنَفْسِهِ، سَيسْهُل عَلَيْهِ قبول إِهَانَةِ الآخَرِينَ لَهُ، شَأْنُهُ في ذلكَ شأن المَيِّتِ الَّذِي لا يتألم من الجروح.
لا يَقْنَعُ بِالدُّونِ إلا مَنْ هو في غايةِ الدونِ.
وفي ذلك يقول الشاعر الجاهلي، موسى بن جابر الحنفي:
إذَا مَا عَلَا المَرْءُ رَامَ العُلَا * وَيَقْنَعُ بِالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا
والدُّون الأولى في البيت: نقيضُ فَوْق، وهو تقصيرٌ عن الغاية. والدُّون في آخر البيت: هو الحَقِيرُ الخَسِيسُ. يقولُ أرسطو: «النفسُ الذليلةُ لا تَجِدُ ألَمَ الهوانِ، والنفسُ الشريفةُ يؤثِّر فيها يسيرُ الكلام».
(79) قَسَا فَالأُسْدُ تَفْزَعُ مِنْ يَدَيْهِ * وَرَقَّ فَنَحْنُ نَفْزَعُ أَنْ يَذُوبَا
قسا: تكونُ القَسْوَةُ بذَهابِ اللِّينِ وَالرَّحْمَةِ، وقَسَا قَلبُهُ قَسْوَةً وقَسَاوَةً: أيْ غَلُظَ قلبُه واشْتَدَّ. تفزَع ونفزَع: الفَزَعُ: الفَرَقُ والذُّعْرُ مِنَ الشَّيْءِ. فَزِعَ مِنْهُ وفَزَعَ فَزَعاً وفَزْعاً وفِزْعاً وأَفْزَعه وفَزَّعَه: أَخافَه ورَوَّعَه، فَهُوَ فَزِعٌ. (لسان العرب). رَقَّ: أي لَانَ، وَصَارَ رَقِـيـقاً هَيِّنًا لَيِّـناً.
يقول الشاعِرُ: إن الممدوحَ قَاسٍ، شَدِيدٌ وصَارِمٌ عَلَى أَعْدَائِهِ، حَتَّى أنّ الأُسُودَ تَخَافُهُ وترتَعِبُ مِنْهُ، واستخدم للتعبير عن خوفها، كلمة: (تَفْزَع)، والممدوحُ ذاته، رَقِيقُ الطَّبْعِ لَِأَوْلِيَائِهِ، هَيِّنٌ لَيِّنٌ معهم، إلى دَرَجَةِ خَشْيَتِهِمْ عليه من أنْ يذوبَ مِن بَالِغِ رِقَّتِهِ مَعَهُمْ، وهي مُبَالَغَةٌ ترومُ بَيَانَ شِدَّةِ لِينِ جَانِبِهِ مَعَ أَحْبَابِهِ.
وفي البَيْتِ بيانٌ لقسوةِ الممدوحِ، وشِدَّتِه على الخُصومِ، ولينِ جَانِبِهِ، ورِقَّةِ طَبعِهِ مع المُحِبِّين، بما يُفزِعُ في الحالة الأولى الخَائفين، ويُفزِعُ أيضًا في الحالة الثانية المُنَاصِرِين، لَكِنَّ فزَعَ أولئِك إنما هو مِنْ قسوَتِهِ أَنْ يَبطِشَ بِهِم، وفَزَعَ هؤلاءِ كان خوفاً عليه من أَن يَذُوبَ من شِدَّةِ لُطْفِهِ، وَرِقَةِ تَعَامُلِهِ معهم! وفي الحديثِ عَن الانتِقَالِ مِنَ النقيض إلى نقيضِهِ، قَوْلُ لَبِيدٍ:
مُمْقِرٌ مُـرٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ * وعَلَى الأَدْنَينَ حُلْوٌ كَالعَسَلْ
والمُمْقِرُ: هو المُرُّ شَدِيدُ المَرَارَةِ.
(80) إِذَا لَمْ تَكُنْ نَفْسُ النَّسِيبِ كَأَصْلِهِ * فَمَاذَا الَّذِي تُغْنِي كِرَامُ المَنَاصِبِ؟
النَّسِيْبُ: صاحِبُ النَّسَبِ الشَّرِيفِ.
المَنَاصِبُ: جمع مَنْصِبٍ، والمَنْصِبُ: هو أَصْلُ المَرءِ. أي: إِذَا لَمْ يُؤَدِّ شَرَفُ النَّسَبِ، والأَصلُ الكَرِيمُ، بِصَاحِبِهِ إِلى أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ كَرِيمَةً مِثْلَ نَسَبِهِ، فإِنَّ كَرَمَ الأَصْلِ، وشَرَفَ النَّسَبِ، لا يُغنِيانِ صاحِبَهما شَيْئاً. إِنَّ مِمَّا اسْتَقَرَ في الأَذْهَانِ؛ أَنْ لَا خَيْرَ فِي شَرَفِ نَسَبٍ مَعَ لُؤْمِ نَفْسٍ! يقول أفلاطون: «مَنْ جَمَعَ إلى شَرَفِ أصْلِه شرفَ نفسِه، فقد قضى الحقَّ الذي عليه، واستدعى التفضيلَ بالحجّة، ومن أغْفَلَ نفسَه، واعتمد على شرفِ آبائه، فقد عَقَّهُمْ وَاسْتَحَقَّ أَلَا يُقَدَّمَ بِهِمْ على غَيْرِهِ».
ومَعنَى بيت القَصِيدِ مُنْتَشِرٌ في الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أبي يعقوب الخُرَيمِيِّ:
إِذا أَنْتَ لَمْ تَحْمِ القَدِيمَ بِحَادِثٍ * مِن المَجْدِ لَمْ يَنْفَعْكَ مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ
وقول البُحتُريّ:
وَلَسْتُ أَعْتَدُّ لِلْفَتَى حَسَباً * حَتَّى يُرَى فِي فِعَالِهِ حَسَبُه
إقرأ المزيد