فرنسيس.. بابا الأخوّة الإنسانية
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

لم يكن البابا فرنسيس كغيره من البابوات الذين تربّعوا على كرسي المؤسِّس القدّيس بطرس (صخرة المسيحية كما وصفه السيّد المسيح نفسه). فقد ارتفع ببابويته إلى المرجعية الإنسانية الشاملة، وجسّد عملياً وواقعياً المبدأ الذي يقول: «ليس الإنسان لخدمة الدين، ولكن الدين لخدمة الإنسان».لقد سما بمسيحيته وبمرجعيته المسيحية إلى المرجعية الإنسانية السمحاء من خلال وثيقة الأخوّة الإنسانية التي أصدرها من أبوظبي مع سماحة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيّب. كثيراً ما استُخدم الدين في الاختلافات والصراعات وحتى في الحروب.

ولكن القيم الإنسانية الرفيعة التي نادى بها البابا والإمام من منبر أبوظبي، يوم 4 فبراير2019، وبحضور ممثلين عن كل الأديان والعقائد الإيمانية العديدة الأخرى (84 بالمائة من البشر يؤمنون بعقيدة دينية) سمت بالمفهوم الديني، وبدور الدين في العلاقات الإنسانية، إلى مستويات غير مسبوقة في سلّم القيم النبيلة والعقائد السامية.

لقد تناولت وثيقة الأخوّة الإنسانية دور الدين -أي دور الإيمان بالله الواحد- في رعاية حقوق الإنسان في الكرامة (ولقد كرّمنا بني آدم) كما جاء في القرآن الكريم، من الطفولة حتى الشيخوخة، بل وحتى أرذل العمر. وتناولت حقوق الطفل والمرأة والرجل على قدر متساوٍ من المسؤولية الجماعية والمشتركة. لم يعرف تاريخ العلاقات الإسلامية - المسيحية وثيقة أخوّة في مثل هذا الشمول الإنساني، وهذا التسامي عن الذاتية الضيّقة. ولعل أول مبادرة عملية تترجم الالتزام بالأخوة الإنسانية، تمثّلت في قيام البابا فرنسيس نفسه بزيارة بنجلادش للقاء تضامني مع جماعات «الروهنغا» المسلمين الذين هُجروا من بيوتهم ومن ديارهم في ميانمار بعد أن تعرّضوا لشتى أنواع الاضطهاد. وقبل ذلك حرص البابا الراحل على الاشتراك في مؤتمر حول السلام العالمي نظّمه الأزهر في القاهرة. كان بذلك أول بابا يزور مقرّ الأزهر الشريف، ثم كان أول بابا يزور المرجعية الشيعية في النجف الأشرف في العراق، ويسير على خطى سيّدنا إبراهيم أبو الأنبياء.

لقد اتخذ البابا فرنسيس اسمه تيمّناً بالقديس فرنسيس الذي تقدّسه الكنيسة اليوم لأنه خرج من بين صفوف القوات الصليبية للتحاور مع المسلمين بحثاً عن كلمة سواء. وسبق لي أن تعرفتُ عليه عندما كان رئيس أساقفة العاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس. فقد وجدتُ في مكتبه نسخة من القرآن الكريم مترجم إلى اللغة الإسبانية، وعرفت أنه كان يترأس لجنة- كان يتولى هو نفسه أمرها- تضمّ مسلمين ويهوداً ومسيحيين أرجنتينيين للعمل معاً من أجل العيش الواحد والاحترام الديني المشترك. ولما اعتلى الكرسي البابوي جاء بهذه الثقافة الإيمانية الانفتاحية ليطلقها إلى العالمية من أبوظبي.

بوفاته تخسر الكنيسة الكاثوليكية، وتخسر الإنسانية جميعها، راعياً من كبار رعاة المحبة والتسامح، وداعياً من كبار دعاة الأخّوة الإنسانية والعاملين عليها. فالدين عنده كما جاء في كتابه «الأخوة الكاملة والمتكاملة» الذي صدر بعد لقاء أبوظبي، ليس مجرد صلاة في كنيسة بل في خدمة الإنسان ومحبته. بوفاة البابا فرنسيس تخسر الكنيسة الكاثوليكية ركناً من أركانها.. ومعلماً من أتباع المسيح والمؤمنين برسالته في التضحية والمحبة والتسامح.

*كاتب لبناني
 



إقرأ المزيد