هايدغر وكينونة الإنسان.. بين القلق والموت
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

يشكّل كتاب «الكينونة والزمان» للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، محطة مركزية في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث، إذ سعى من خلاله إلى إعادة طرح السؤال الجوهري: ما معنى أن يكون الإنسان؟ هذا السؤال، في ظاهره بسيط، لكنه عند هايدغر يُعيد بناءَ علاقة الإنسان بالعالم وبالزمن وبالآخرين.

أساس هذه الأطروحة هو تحليل «الوجود-هنا»، وهو المفهوم الذي استخدمه هايدغر ليعبّر عن الإنسان، لا بوصفه كائناً مفكراً أو وعياً معزولاً، بل ككائن منخرط في العالم، يعيش فيه، ويتفاعل معه، ويُعيد تعريفَ نفسه باستمرار من خلال تجربته اليومية. الإنسان في فلسفة هايدغر لا ينتمي إلى جوهر ثابت أو طبيعة مغلقة، بل هو مشروع مفتوح على إمكانياته، يعيش باستمرار في توتر بين ما كان عليه وما يمكن أن يكون عليه. ينتقد هايدغر الفلسفة الغربية لأنها انشغلت بالموجودات وأهملت الكينونة ذاتها، ولم تسأل: ما الذي يجعل الوجود ممكناً؟، بل اكتفت بوصف الأشياء كما تبدو، متناسيةً أصلَ هذا الحضور.

ومن هنا، يدعو هايدغر إلى تحليل أنطولوجي يبدأ من تجربة الإنسان المعيشة في العالم، حيث لا يكون الإنسان كائناً خارجياً عن محيطه، بل هو منخرط فيه منذ البداية. ويقدّم هايدغر تصوراً مغايراً حول العلاقة بين الإنسان والعالم، الإنسان لا يوجد في مواجهة العالم بل في داخله، ولا يفهم الأشياء عبر تأمل عقلاني مجرّد بل عبر انشغالاته اليومية. غير أن لحظة القلق تأتي لتوقظه.

والقلق، عند هايدغر، ليس خوفاً من خطر محدد، بل هو حالة ينكشف فيها للإنسان أنه في عمق وجوده منقطع عن أي ضمانة، وأن كل ما اعتبره مألوفاً قد يفقد معناه. في هذه اللحظة يدرك هشاشتَه، ويُعاد توجيهه إلى ذاته ككائن مسؤول عن وجوده، عليه أن يختار طريقَه بإرادته الحرة. هذا الوعي هو ما يسمّيه هايدغر «الوجود الأصيل»، حيث يتحمل الإنسان مسؤوليتَه في تشكيل مشروع حياته دون أن يذوب في آراء الآخرين أو يتقوقع في العادات الموروثة. يربط هايدغر هذه الأصالة بإدراك الإنسان لموته بوصفه الإمكانية القصوى التي لا يمكن لأحد أن ينوب عنه فيها. هذا التصور للزمن يخرج عن فكرة الوقت كتعاقب ميكانيكي للّحظات، ويُعيد تعريف الزمن بوصفه بنية الوجود نفسه.

غير أن مشروع هايدغر، رغم عمقه، لم يسلم من النقد. وأول ما يؤخذ عليه الغموض الذي يحيط بمفهوم «الوجود-هنا»، إذ يبدو أحياناً أنه وصف وجودي عام، وأحياناً أخرى أنه حصر في تجربة إنسانية محدودة لا تُختزل في كينونة واحدة. كما أن هايدغر، رغم رفضه للميتافيزيقا، أعاد إنتاجها من خلال مصطلحات معقدة تجعل مشروعه منغلقاً على دائرة لغوية عصية على التبسيط. والأهم من ذلك أن هايدغر يجعل من مواجهة الموت غايةً في حد ذاتها، وكأن الإنسان لا يجد معنى وجوده إلا في حدود وعيه بفنائه. هذا التصور، وإن كان يكشف عن هشاشة الكائن، يظل حبيسَ أفق مغلق لا يفتح على أي أمل في تجاوز هذه الهشاشة إلا ضمن الإمكان الذاتي المحدود. ومن زاوية التصور الإسلامي، هذا الطرح يبقى ناقصاً، لأنه يُقصي البعدَ الروحي الذي يُعيد للإنسان معنى وجوده في علاقته بخالقه.

القلق، كما يُفهم في الإسلام، هو تذكير بفقر الإنسان وضعفه، ودعوة للعودة إلى الحق، لا مجرد مناسبة لتأكيد الفردانية أو البحث عن مشروع ذاتي. والمصير الإنساني لا يُختزل في مواجهة الموت وحده، بل في تحقيق الغاية مِن الخلق واستحضار البعد الآخر الذي يتجاوز حدود الزمن الحاضر. وبهذا المعنى، رغم جدة مشروع هايدغر في مساءلة المفاهيم التقليدية، فإنه لا يقدّم جواباً نهائياً عن سؤال الكينونة، لأنه يُبقي الإنسانَ في أسر زمنه ولا يفتح له أفقاً نحو معنى يتجاوز وجوده المؤقت.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

 



إقرأ المزيد