روبوتات الدردشة ومخاطر هدر قدرات الذكاء الاصطناعي
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي أداء العديد من المهام التي يقوم بها البشر، إلا أن استخدامه بهذا الشكل يُغفل جوهر كيفية استفادتنا من فوائده الحقيقية. تتسابق كبرى شركات الذكاء الاصطناعي لتكون الرائدة في تحقيق ما يُعرف بـ«الذكاء الاصطناعي العام»، وهو أنظمة ذكاء اصطناعي تُظهر مرونة الخبراء البشريين وذكاءهم، مع سرعة وكفاءة الحواسيب الرقمية القادرة على الإجابة عن أي سؤال تقريباً أو حل أي مشكلة تُواجهها، بما يشبه إلى حد ما حاسوب المركبة الفضائية في مسلسل الخيال العلمي الشهير «ستار تريك».

وخلال السنوات الأخيرة، اعتقد كثيرون أن مفتاح الوصول إلى هذا الهدف يكمن في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدية، مثل أنظمة «شات جي بي تي» لإنتاج النصوص والصور والبرمجيات ومقاطع الفيديو، والتي تعتمد في تدريبها على مجموعات ضخمة من البيانات التي أنتجها البشر. وتتميز تلك الأنظمة بأنها واسعة النطاق وفي متناول حتى مستخدمي الأدوات الرقمية المبتدئين. وقد دفعت النجاحات الأولى لروبوتات الدردشة الكثيرين إلى الاعتقاد بأن الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام أصبح وشيكاً.

غير أن هذه الأنظمة لطالما كانت عُرضة للأخطاء وما يعرف بـ «الهلوسة»، لذلك لم يتمكّن الذكاء الاصطناعي التوليدي من تحقيق ارتفاع هائل في الأرباح والإنتاجية التي توقعها الكثيرون في صناعة التكنولوجيا. ووجدت دراسة حديثة أجرتها مبادرة ناندا التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن 95% من الشركات التي أجرت دراسات تجريبية للذكاء الاصطناعي لم تحقق عائداً يُذكر على استثماراتها. ويتوقع تحليل مالي حديث عجزاً يُقدر بـ 800 مليار دولار في إيرادات شركات الذكاء الاصطناعي بحلول نهاية عام 2030.

وحتى نستغل نقاط قوة الذكاء الاصطناعي، يجب أن تتوقف صناعة التكنولوجيا عن التركيز المفرط على هذه الأدوات التي تُناسب الجميع، والتركيز على أدوات ذكاء اصطناعي متخصصة مُصممة لمشاكل محددة، لأنها غالباً ما تكون أكثر فعالية. وقبل ظهور روبوتات الدردشة، ركّز غالبية مطوري الذكاء الاصطناعي على بناء أنظمة ذات أغراض محددة، مثل لعب الشطرنج أو تقديم توصيات بالكتب والأفلام للمستهلكين.

ولم تكن تلك الأنظمة بنفس جاذبية التحدث إلى روبوت محادثة، وكان تطوير كل مشروع منها يستغرق سنوات حتى يصل إلى مرحلة الإتقان. لكنها كانت غالباً أكثر موثوقية من الأنظمة التوليدية الحالية، لأنها لا تتعلم كل شيء من الصفر، بل تُبنى على أسس من المعرفة والخبرة المتخصصة. وإذا نظرنا إلى لعبة الشطرنج كمثال، نجد أنه إذا طُلب من نموذج لغوي ضخم، الذي يعتمد عليه برامج المحادثة، أن يلعب الشطرنج، فإنه يواجه صعوبة في الأداء الجيد، وغالباً ما يجري حركات غير قانونية، ولا يتمكّن من استيعاب قواعد اللعبة تماماً، حتى بعد تدريبه على كميات هائلة من البيانات ذات الصلة.

وعلى النقيض، تُبرمج برامج الشطرنج المخصصة منذ البداية لاتباع مجموعة قواعد مدمجة، وتُبنى حول مفاهيم أساسية مثل هيكل لوحة اللعب وشجرة الحركات المحتملة. ولا تُجري هذه الأنظمة حركات غير قانونية نهائياً، ويمكن لأفضل أنظمة الشطرنج المخصصة للأغراض المحددة أن تتغلب بسهولة حتى على أمهر البشر.

ومن اللافت للنظر أن جهاز أتاري 2600 تفوق مؤخراً على نموذج لغوي كبير باستخدام برنامج ذكاء اصطناعي مُخصص صُمم في سبعينيات القرن الماضي. ولا تقتصر المجالات التي يتألق فيها الذكاء الاصطناعي المتخصص على الألعاب البسيطة مثل الشطرنج. فإحدى أبرز مساهمات الذكاء الاصطناعي حتى الآن برنامج «ألفا فولد» الذي طورته شركة «ديب مايند» التابعة لمجموعة «غوغل». والذي يتنبأ بالبنية ثلاثية الأبعاد للبروتينات، وقد بُني على أساس معرفة أن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية، مع معلومات دقيقة حول كيفية طي تلك السلاسل لتُشكل البنية البروتينية النهائية. ويجمع النظام بين أساليب التعلم الآلي الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي الكلاسيكية في مزيج مبتكر صُمم خصيصاً لحل مشكلة التنبؤ بكيفية طي البروتينات. ولا يبدأ البرنامج في عملية التعلم إلا بعد اكتمال البنية الذكية المتكامل. ويستخدم ملايين العلماء «ألفا فولد» بانتظام في تطوير أدوية جديدة ودراسة المسارات الجزيئية داخل الدماغ.

كما استخدم في تحليل أكثر من 200 مليون بروتين، على أمل اكتشاف علاجات جديدة وتحقيق تقدم في مجالات الزراعة. والأهم من ذلك، أن النظام مُصمم للعمل على مشكلة واحدة معينة، حيث يُقدم حلاً ممتازاً لها.

وفي العام الماضي، مُنح مبتكرو البرنامج جائزة نوبل تقديراً لإنجازهم. وبالمثل، تستخدم شركات مثل «وايمو» التابعة لمجموعة «ألفابت» أنظمة ذكاء اصطناعي مصممة بعناية، مع مكونات لأغراض بعينها، مثل اكتشاف الأجسام، ودمج البيانات المرئية من أجهزة استشعار متعددة، وفهم البيئة المحيطة، واتخاذ القرارات. وبما أن البنية الأساسية للقيادة الآلية مدمجة في النظام منذ البداية، يستطيع نظام «وايمو» الاصطناعي أن يتعلم ويُحسّن أداءه في القيادة بدرجة تفوق ما يمكن تحقيقه لو بدأ من الصفر. وعلى الجانب الآخر، حاولت شركة «جوست أوتونومي»، التي تأسست عام 2017 بدعم جزئي من شركة «أوبن إيه آي»، تطوير برمجيات للسيارات ذاتية القيادة تعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ورغم جمع تمويل بأكثر من 200 مليون دولار، لم تتمكن الشركة من إنجاح المشروع، واضطرت إلى إغلاق أبوابها العام الماضي. ويمثّل ضمان سلامة أنظمة الذكاء الاصطناعي سبباً آخر يدعو المطورين إلى التوقف عن استخدام النماذج العامة في كل شيء. وحتى الآن، لم تتمكن الصناعة من ضمان التزام الأنظمة التوليدية بتعليمات السلامة.

ووثّقت الدراسات حالات تخدع فيها هذه الأنظمة مشغليها من البشر، أو تحاول ابتزازهم عند التعرض لتهديد، بل والرد بطريقة يمكن أن تؤدي إلى القتل. أما الأنظمة المتخصصة مثل «ألفا فولد» أو «وايمو»، فهي لا تُظهر مثل هذا السلوك، نظراً لأن نطاق عملها محدود وواضح. ولا يعني تحويل التركيز عن روبوتات الدردشة أنه على الباحثين التخلي عن السعي وراء الذكاء الاصطناعي العام، والذي قد يصبح أكثر فعالية في نهاية المطاف من خلال ابتكار مناهج جديدة.

كما لا يعني التخلي عن الذكاء الاصطناعي التوليدي تماماً، فلا يزال بإمكانه أداء دور مفيد في بعض المهام المحددة، مثل البرمجة والتوليد الأفكار والترجمة.وفي الوقت الراهن، يبدو أن شركات التكنولوجيا الكبرى تتعامل مع الذكاء الاصطناعي العام وكأنها تُجرّب أفكاراً عشوائية، على أمل ألا يؤدي ذلك إلى نتائج سيئة.

وكما شدد رائد الذكاء الاصطناعي يوشوا بنجيو مؤخراً، فإن تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي ذات قدرات متزايدة على الاستقلالية لا يتوافق بالضرورة مع مصالح البشرية. وسيكون من الأفضل للبشرية أن تخصص المختبرات المزيد من مواردها نحو بناء أدوات متخصصة في خدمة العلوم والطب والتكنولوجيا والتعليم.

*أستاذ فخري بجامعة نيويورك، ومؤلف كتاب «ترويض وادي السيليكون: كيف نضمن أن يعمل الذكاء الاصطناعي لصالحنا»

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
     



إقرأ المزيد