جريدة الإتحاد - 10/19/2025 12:24:52 AM - GMT (+4 )

ما لم يكن في بالي وأنا في «بالي» أن أرى هذه الكثرة من المعابد في هذه الجزيرة، حتى الهند ربما لا تفوقها، رغم ضخامة معابدها، لكنها ليست بتلك الكثرة، حتى البيوت أصبحت لها واجهات المعابد، بتلك البوابة المفتوحة على السماء والفضاء، وقد تساءلت عن السبب دونما جواب؛ لذا أرجّح ربما الوحدة والخوف كمتلازمين للإنسان الساكن في الجزر، الوحدة في جزيرة تحدها مياه عازلة عن الوصول والتواصل، والخوف من مياه غادرة باندفاعاتها المخربة أو سفن متوقفة فجأة، بما قد تجلبه من أقدام غريبة، كل هذا جعل السكان الأصليين يتحصنون بالعبادات ودورها واحتفالاتها التي تمتد طوال العام، كل ذلك طرداً لملل الوحدة، والخوف من الأرواح الشريرة الساكنة أو القادمة، أما السبب الآخر لوجود هذا الكم من المعابد، فهو قدوم مهاجرين هنود من شتى الطوائف، وبوذيين من بلدان مختلفة، واستيطانهم في هذه الجزيرة التي غدت مثل معبد كبير يصعب الخلاص منه بسهولة، والجزيرة أهلها محافظون، ويتفاءلون بكثرة المعابد وطقوس المعتقدات القديمة الممزوجة بالسحر والخوف، وتلك الكائنات، مثل الأشجار الهرمة، وأساطير البحر، وتقديس الأسلاف، والحيوانات التي عرفت الجزيرة قبل الإنسان، والقرد واحد من هذه الأشياء المقدسة، والمتواترة من حضارات آسيوية متعددة.
زرت غابة القرود للمرة الثانية، لطرد تلك العقدة التي سببها لي قرد المعبد مرة بسرقة نظارتي الطبية، غير أن هذه المرة ذهبت جاهزاً متجهزاً، وكل الاحتياطات الأمنية من حولي، محاربتان من الأمازون، أميركية سمراء، وبرازيلية خلاسية، ودليل سياحي إندونيسي لا يختلف عن الدليل الأوليّ، بل يكادان يتشابهان في الفَرَق والرعب الذي يطلق القدمين، حملت معي نظارة تقليد من التي تباع واقفة، وبدون بيت حافظ لها، والتي تعرضها محلات مختصة بالسياح عادة، وبهمالة متعمدة وواضحة، جعلتها متدلية من شنطة الكاميرا، وظاهرة للعيان، وفي متناول أي قرد مبتدئ في النشل، وأخفيت أي شيء لامع مثل ساعة ذهبية، واعتمرت قبعة، لا تشتريها بفلس «حليان»، فيما كانت وسائل الدفاع عند محاربتي الأمازون غراميل موز من التي يحبها قلب القرد، ودخلنا، وكنت مستعداً حتى أن ألبس له حلقاً «كليت» تقليد، إن فكر في الخيانة، وسرقة الزائر الذي اختلف عن ذلك الزائر قبل ست سنوات، كنت معتقداً أنني سأخدع ذلك القرد الماكر، لكنه استولى على قلبي محاربتي الأمازون، وظل يتصرف كطفل، لا تعرف ردات فعله، ويضَحكهما بطريقته الاستعراضية، وغرمول موز من يد هذه، وملاطفة من الأخرى، وهو يتمسح بهما، ويطالعني كرجل غريم، وهما لا تقصرّان معه، ولا تبخلان عليه بالموز، حتى لم تعودا تلتفتان إليّ، وحين رأيته استحوذ على الجو، ويكاد أن يجعلني أخرج من غابته خاوي الوفاض، وبلا محاربتين اندفعتا بعاطفتيهما الفيّاضتين، ونسيتا أسلحتهما ووصاياي العشر، تعمدت وأسقطت النظارة التقليد أمامه، فهجم وأخذها، تأملها قليلاً، ثم تقدم خطوتين، وأعطاني إياها مع ضحكة ذكية، وماكرة في الوقت نفسه، يعرفها الرجال وحدهم!
في جزيرة «بالي» التي تعيش على أمجاد سنوات من الرخاء، والغنى الطارئ، وصيت أيام خوالٍ، كانت بلا منافس في البذخ، اليوم تعيش مجاهدة لكي تحتفظ برونقها القديم، حالمة أن تدخل عالم الأثرياء الجدد، ولو بقليل من التنازلات، المهم ألا تبقى وحيدة في ذلك الجرف تستقبل موجها وحدها.
إقرأ المزيد