جريدة الإتحاد - 1/21/2025 12:18:15 AM - GMT (+4 )
غناء كالبكاء، دائماً تداهمه حالة هذا الغناء الذي لا يتوقف، حتى يذهب الليل، تشعله الريح عندما تهب من الجنوب.. طرق بابه ليلاً وسأل: هل أنت تبكي أم تغني؟، صمت وبعد برهة، وبعد أن تأكد أن جاره هو الذي يطرق الباب، وهو الذي اقتحم عليه عزلته في ساعة جميلة، متشابكة بين الحلم والحب والحزن والبكاء. قال: لا أنا أرفع الصوت بالنشيد وغناء (الطارج والونة والشيلات). أخاطب الدار البعيدة، هناك في رؤوس الجبال، أنت لا تعرف رؤوس الجبال، لا تعرف (شعم وبخا وكمزار) لا تعرف جبال الشحوح، هناك حيث الرجال الجبال، حيث يطاوع الصخر ضربات الأقدام الحجرية، وحيث تنبت أجمل الأشجار وتعطي أفضل العسل، هناك حيث تصنع المرأة الوجود القوي ويبرق الجمال الجبلي.
- أنا لا أغني ولا أبكي، ولكن أردد نشيد الحياة وأنشر للرياح ما يفيض به هذا القلب والروح المغتربة عن أرضها ومكانها وناسها والحبيب الذي لا يغيب حضوره. الظروف وحدها جاءت بي إلى هذا الرمل والساحل الذي لا يشبهني. قال ذلك حسن الجبلي ثم صمت. مرّت أعوام طويلة، وهو يسكن هذا الحوش وخيمة جريدة النخل، بعد أن أورثها له صاحبه حمود العماني، والذي زامله زمناً طويلاً، ثم رحل عن الدنيا وترك له (الزريبة/المزرعة) والحوش والخيمة، التي يشتركان فيها السكن والحياة. كلهم غرباء على الساحل والبحر، وحده العمل في مزارع النخيل وتقديم خدماتهم وقوتهم الجسدية رأس مالهم. حمود العماني بارع في عمله وخبير في الزراعة وخدمة النخيل، بينما حسن صديق يتعلم من صاحبه الصنعة، لم يزل حسن ممسكاً بعصاه و(اليرز) الذي لا يفارقه أبداً، بالإضافة إلى (المحزم) الذي يشده على وسطه ويغرز به سكيناً صغيراً، إنه رجل جبل وربما محارب صلب، لتلك الطبيعة الجبلية التي جاء منها، هجرها لاختلاف وخصام حصل مع آخرين، ففضّل الابتعاد عن أرض الجبال، والبعض قال إن محبوبته تزوّجت بآخر فقرر هجرة الجبال.
كل هذا الغناء أو البكاء الذي يأتي من كوخه عندما تأتي الرياح من الجنوب، هي رسائل تحملها الرياح إلى قمم الجبال البعيدة، أرض الشحوح الشامخة. حسن يحب الغناء الحزين، هو التعبير القوي والصادق عن حقيقة الجوف ونبض القلب، هو الحب، وحلم الفرح الذي لا يأتي. عندما قال له ذلك الطارق على بابه والمتعجب من هذه البكائية التي توجع القلب. قال: حسن هذا هو الغناء الجميل. تعجب الطارق من تفسير هذا الرجل، كيف يكون هذا الكم من الحزن والنواح جميلاً. ولكن استدرك أن بعضهم هكذا، هو اختياره وتصوره للحياة، وهكذا يواجه دواخله أو حلمه بالغناء الحزين. بعد زمن مرض الرجل الغريب ولازم كوخه، وصلت أخباره إلى ناسه في رؤوس الجبال، أخذوه وذهب ليموت هناك، حيث جذوره وأرضه، تعاقبت الريح في هبوبها، ثم اقتلعت الحوش والكوخ، وجاء الإسمنت والبناء ليطمر ذاكرة قديمة.
إقرأ المزيد