جريدة الإتحاد - 1/21/2025 12:32:39 AM - GMT (+4 )
حدثني صديق ذات مرة في الزمان القديم، وكان طريح الفراش إثر مرض عضال، قائلاً: الآن أشعر بالفرح، وأنا أنظر إليك وأنت تخر دموعك مدراراً، حزناً على فراقي، بينما أنا رغم إحساسي المتبادل نحوك، أشعر بأنني ذاهب إلى مكان تزدهر فيه أشجار الليمون، وأنا أحب رائحة الليمون منذ الصغر؛ لذلك لا يرهبني الموت، بل هو رحلة جديدة وشائقة تحتاج مني إلى أن أعد نفسي لها بكل صرامة ووعي، ومن دون خيالات مريضة، كما يفعل الآخرون والذين يعتبرون الموت أمراً مؤسفاً، وأنه نهاية مأساوية تهاجم الإنسان عندما يضعف، وتكل قواه الجسدية من حمله، ويمسك عقله عن التفكير، هذه مأساة الإنسان الخاوي، هذه مشكلة كل من فقد الإرادة، والعزيمة على مواجهة القدر بشيء من الحكمة، وأشياء من الوعي؛ لأن الموت في حقيقته نهاية لحياة، بل هو بداية لعمر جديد، طالما استقبلناه بإدراك أنه الزائر خفيف الظل، وهو الحبيب الذي يمنحك روحاً جديدة، لتعيش حياة أطول، وأمتع؛ لأنها حياة خالية من متطلبات الدنيا، حياة خاوية من شعث الرغبات اللحظية، حياة تمتد إلى ما أبعد من الدهر الذي تعيشه البشرية.
كنت أستمع إلى حديث الصديق، وكأني أشاهد فيلماً هوليوودياً، وكأني أمام لوحة سيريالية، وكأني أقرأ قصيدة نثرية مغلقة، والصديق مندمج في سرده، منسجم مع نفسه، ولا يلتفت لنظراتي الساهمة، لا تعنيه حركة الوجه، وأنا أنصت بدهشة، وفي عيني أسئلة غرائبية، ولكني لم أجرؤ على توجيهها في حضرة الصديق والذي قد يغادرني في أي لحظة؛ نظراً لحالته الصحية المربكة، ولكني رغم كل المشاعر التي دهمتني في تلك اللحظات، وكل الأفكار التي قفزت إلى ذهني، حتى أنني اعتقدت أن الصديق في حالة هذيان، وهذا ما يسبق رحيل الروح، وقفزتها الأخيرة، انتابني شعور جميل، حيث تمنيت أن تستمر هذه الحالة لدى الصديق؛ لأنه على أقل تقدير، سوف يغادر عالمنا، وفي عينيه بريق الفرح، وعلى وجهه ترتسم ابتسامة انتصار، ليست تغضنات هزيمة.
وهذا هو ما يطلق عليه في علم النفس «الذهان الإرجائي»، وهذا في حد ذاته انتصار يحققه الصديق، وهو في ذروة العجز، وجسده الراهن يكابد ضربات الحمى، وأنياب المرض التي نخرت منه العظم واللحم.
حقيقة هذه القصة ذهبت بي إلى عوالم بعيدة عن الواقع، على الرغم من أنها جاءت من واقع حال صديق يعاني لوعة المرض، ومن إحساس بالفقدان، كون الأطباء صرحوا له بأنه لن يعيش طويلاً.
وأنا أستمع إلى كلام الصديق، كنت أهيب بشجاعته، وقوة المعنى الذي اكتسبه وهو يتلو عليّ الكلمات، وكأنه في محفل نوراني رهيب.
انتقل الصديق إلى العالم الآخر، وبقيت وحدي أمضغ لبان كلماته، وأتذوق طعم معانيها، بمشاعر مختلطة، مزجت ما بين الحزن على فراق الصديق وبين الاعتزاز بهكذا شجاعة منقطعة النظير.
لأنني لم أعد أستوعب بعد، رغم مرور سنوات على مغادرة الصديق عالمنا؛ لأن في الذاكرة الجمعية فإن للموت جنازته المهيبة، قميصه الأبيض الرهيب، والصمت المرعب الذي يلف الراحلين.
ما زلت أتذكر تلك النظرات الغامضة، وتلك العيون المعلقة في السماء، بينما الجسد ينام خامداً، هامداً، ولا حركة إلا للأسئلة الفياضة، تلك الأنهار المتدفقة من خاطر إنسان لم يعد تعنيه حركة المرور من حوله، فقط هو يكرس جهده في اغتنام الفرصة كي ينام نومته الطويلة.
هذه إرادة حرة، هذه قوة عزيمة، من أجل رفض اليأس، ورفض الخوف، واستقبال الموت كزائر، طالما في الموت حياة، وطالما في الحياة إنتاج جديد للجمال الروحي.
إقرأ المزيد