جريدة الإتحاد - 6/22/2025 11:46:10 PM - GMT (+4 )

علوم الاقتصاد والاجتماع طوّرت عبر عقودٍ من الزمن مقاييس خاصةً تشبه ولا تطابق مقاييس العلم التطبيقي كالرياضيات وغيرها، وظلت العلوم الإنسانية العامة تسعى جهدها لمطابقة العلوم المحضة، فتنجح حيناً وتفشل أحياناً، لأن النفس البشرية أكثر تعقيداً من حسابات الرياضيات.
تطور العلوم الإنسانية شهد تباينات عدة وتفرعاتٍ شتى، انقرض بعضها وتطور البعض الآخر، وبينما ظلت العلوم الرياضية، كالجبر والرياضيات والفيزياء والإحصاء وأمثالها، تعتمد على الأرقام والمعادلات والنتائج القاطعة، فقد سعت العلوم الإنسانية، كالأنثروبولوجيا والاجتماع والاقتصاد والسياسية ونحوها، أن تحذو حذوها، ولكنها لم تستطع حتى الآن مع كل التطور الكبير، الذي حدث لهذه العلوم الجليلة المتفرعة عن الفلسفات الكبرى.
المثال من أفضل الطرق لتوضيح الأفكار، وفي علم الجيولوجيا ثمة مقياس شهيرٌ ومتداولٌ ويعرفه الجميع في هذا العصر، وهو «مقياس ريختر» لقياس الزلازل، وهو مقياس اخترعه تشارلز فرانسيس ريختر، حيث وضع مقياساً علمياً محدداً، لتصنيف الهزات الأرضية وفق طريقةٍ علميةٍ ورياضيةٍ، وقد صار اليوم معتمداً، ويفهمه الكافة في نشرات الأخبار بمجرد ذكر الرقم في هذا المقياس.
جرت محاولات في العلوم الإنسانية لخلق مقاييس ومعايير ومؤشراتٍ، في علوم الاجتماع والسياسية والاقتصاد، تشابه تلك العلمية والرياضية، وكان طبيعياً ألا تحظى بنفس البرهنة والجودة والمعرفة الشعبية كسابقتها، ولكن قصور العلم الحالي لا يمنع المحاولة، وهو عموماً شأن تسعى له العلوم والأكاديميات في شتى دول العالم.
ظاهرة وحركات «الإسلام السياسي» مثلت حدثاً استثنائياً وكبيراً على مدى أكثر من قرنٍ من الزمان من تاريخ البشرية، وتاريخ الأمتين العربية والإسلامية، وهي ظاهرة بالغة التأثير في كل المجالات وواسعة التعدد والتشظي عبر أيديولوجيات ومفاهيم وخطاباتٍ، وعبر جماعاتٍ وتنظيماتٍ، وعبر محاولات التماهي مع الدين وجعل الدين الإسلامي، تحديداً، سبيلاً إلى «السلطة السياسية»، وعبر عقودٍ متطاولة كانت لهذه الظاهرة وعلاقاتها بالدول التي نشأت فيها وبالاستعمار والعلاقات المتشعبة معه تأثيراتٌ لا تحصى ومناوراتٌ لا تعد، ولكن ذلك لا يغني عن أي محاولاتٍ علميةٍ لرصد هذه الظاهرة الكبرى ووضعها على محك العلم والتمحيص.
«مقياس لحتر» هو مقياسٌ يراد به رصد تطورات هذه الظاهرة، وهي ظاهرة «الصحوة الإسلامية» التي تختلف في كل شيء عن «دين الإسلام»، وهو مقياس يعبر عن اعتماد الصحوة على طول اللحية وقصرها كمؤشرٍ دينيٍ على الانتماء لأيديولوجيا الإسلام السياسي لا على الانتماء للإسلام، فالخلافات الفقهية حول إعفاء اللحية من عدمه كثيرةٌ ومتشعبةٌ في أقوال فقهاء الإسلام في المذاهب المعتمدة، وهي مسألة فقهيةٌ صغيرةٌ ليست ذات شأن لدى الفقهاء المعتبرين، ولكنها تحوّلت مع «الصحوة» إلى مقياسٍ مهمٍ مع أمثالها في «الزي» و«الهيئة» و«الخطاب» و«طريقة التعامل» من أجل تمييز «الإسلاموي» عن «المسلم».
يمكن للباحث المختص أن يدرك معاني الظواهر الشكلية للتعبير عن الأديان، كما يمكن لعامة الناس إدراك انتماءات الأشخاص الدينية بناء على مظاهرهم التي يختارونها، فاليهود مثلاً يميّزون أنفسهم بالشعر المتدلي على طرفي الرأس والذي يسمونه «الزنانير»، وكذلك بـ «الكيباه» أو القبعة والغطاء الذي يوضع على منتصف الرأس، ومثل هذا يفعل أتباع الديانة «السيخية»، حيث يميزون مظهرهم بميزاتٍ معينة مثل «كيش» أو الشعر غير المقصوص و«كارا» أو سوارٌ من الفولاذ، أو مثل «النقطة الحمراء بين الحاجبين» في الديانة الهندوسية، والأمثلة لا تحصى.
أخيراً فـ «مقياس لحتر» والتسمية ليست لي، هو مقياسٌ علميٌ يفترض أن تعتمده الأكاديميات والدول لقياس تأثير الصحوة على المجتمعات والدول، لا حين تصل لمرحلة «الإرهاب»، بل قبل ذلك بكثيرٍ، لأنه يفترض بالعالم وصانع القرار أن يعرف حراك المجتمعات قبل أن تصل لمرحلتها النهائية.
*كاتب سعودي
إقرأ المزيد