«الاحتياطي الفيدرالي».. واستقلالية السياسة النقدية
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

بصفتنا رئيسين سابقين لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، نعلم من خلال خبرتنا ومن قراءتنا للتاريخ، أن قدرة البنك المركزي على العمل باستقلالية أمر أساسي لنجاحه في إدارة الاقتصاد بفعالية. والمحاولات الأخيرة للنيل من هذه الاستقلالية -بما في ذلك مطالبة الرئيس بتخفيض حاد في أسعار الفائدة، وتهديده بإقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، إذا لم يمتثل البنك- تشكّل خطراً حقيقياً وطويل الأمد على الاقتصاد. فهي لا تُقوّض السيد باول فحسب، بل تُقوّض أيضاً جميع رؤساء الاحتياطي الفيدرالي المستقبليين، بل ومصداقية البنك المركزي نفسه.

إن استقلالية الاحتياطي الفيدرالي في تحديد أسعار الفائدة، لا تعني غياب المساءلة الديمقراطية. فقد حدد الكونجرس قانونياً الأهداف التي يجب على الاحتياطي الفيدرالي السعي لتحقيقها -وهي أقصى قدر من التوظيف واستقرار الأسعار. كما أن مسؤولي البنك يقدمون تقارير منتظمة إلى لجان الكونجرس حول التقدم المحرز نحو تحقيق هذه الأهداف. لكن الاستقلالية تعني أن صانعي السياسات النقدية مُسموح لهم باستخدام التحليل القائم على الحقائق وأفضل تقديراتهم المهنية لتحديد أفضل السُبل لتحقيق أهدافهم الموكلة إليهم، دون مراعاة الضغوط السياسية قصيرة الأجل.

وبالطبع، فإن صنّاع القرار في الاحتياطي الفيدرالي بشر، وقد يرتكبون أخطاء. ولكن هناك كمّاً هائلاً من الأدلة، المستخلصة من تجارب الولايات المتحدة ودول أخرى، تُظهر أن إبعاد السياسة عن قرارات السياسة النقدية يؤدي إلى نتائج اقتصادية أفضل. وأحد الدروس الواضحة من التاريخ هو أنه عندما تُجبر البنوك المركزية على تمويل العجز الحكومي -من خلال الحفاظ على أسعار فائدة منخفضة جداً، على سبيل المثال- فإن النتيجة الحتمية هي التضخم المرتفع والأضرار الاقتصادية. لقد شهدنا هذا السيناريو عدة مرات، بما في ذلك في الولايات المتحدة. فخلال الحرب العالمية الثانية وبعدها بسنوات، تعرض الاحتياطي الفيدرالي لضغوط من وزارة الخزانة لتثبيت أسعار الفائدة للمساعدة في تمويل ديون الحرب، مما أدى إلى موجة تضخم بنسب عالية، في أواخر الأربعينيات.

وتمرد صناع القرار في البنك المركزي، وفي عام 1951 تم التوصل إلى اتفاق مع وزارة الخزانة يفصل بين إدارة الدين الحكومي والسياسة النقدية، مما سمح بدوره للاحتياطي الفيدرالي بمكافحة التضخم. تلك الحادثة، وغيرها الكثير حول العالم، تؤكد حقيقة أساسية: إذا شعر المستثمرون والجمهور بأن السياسة النقدية تُستخدم لتسهيل الاقتراض الحكومي، فإنهم يفقدون الثقة في استقرار الأسعار.

ونتيجة لذلك، يطالب المدخرون والمستثمرون في الدين الأميركي بعوائد أعلى تعويضاً عن تآكل رأس المال المحتمل. ومن المفارقات أن إجبار السياسة النقدية على تمويل العجز يرفع في الواقع من تكاليف الاقتراض على الجميع - من مشتري المنازل والشركات إلى الحكومة ذاتها. كما أن استقلالية البنك المركزي تسهم في إبعاد تأثير الانتخابات، التي عادةً ما تركّز على المدى القصير، عن قرارات السياسة النقدية. على سبيل المثال، ضغط الرئيس ريتشارد نيكسون على رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، آرثر بيرنز، لخفض أسعار الفائدة قبل انتخابات عام 1972 من أجل تعزيز الاقتصاد مؤقتاً، لكن النتيجة كانت «الركود التضخمي» - تضخم مرتفع مع نمو اقتصادي ضعيف.

وقد ظلّت هذه التجربة تطارد صناع السياسات النقدية منذ ذلك الحين. وظلّت مشكلة الركود التضخمي تؤرق الاقتصاد الأميركي لسنوات حتى جاء بول فولكر، أحد رؤساء الاحتياطي الفيدرالي، وأعاد تركيز البنك على مكافحة التضخم في أوائل الثمانينيات. وقد أدى تشديده للسياسة النقدية إلى ركود مؤلم، لكنه استعاد المصداقية الضرورية لكبح التضخم.

بشكل عام، فإن دور الاحتياطي الفيدرالي المستقل وغير الحزبي هو أن يأخذ بعين الاعتبار التأثيرات بعيدة المدى لسياساته على صحة الاقتصاد الوطني، وهو ما يصعب على المسؤولين المنتخبين القيام به في ظل ضغوط الموازنة والانتخابات.

وكما أظهرت تجربة نيكسون، فإن الضغط على الاحتياطي الفيدرالي قد يأتي بنتائج عكسية إذا أضعف التزام البنك بمكافحة التضخم. وفقدان مصداقية الاحتياطي الفيدرالي أمر مكلف استعادته، كما برهنت شدة ركود فولكر.

إن تقويض استقلالية البنك المركزي سيضعف أحد أعظم نقاط القوة في الاقتصاد الأميركي، وهو قدرته على جذب رؤوس الأموال الأجنبية. لقد وثّق المستثمرون في جميع أنحاء العالم لفترة طويلة بأن الاحتياطي الفيدرالي سيتخذ قرارات صعبة من أجل السيطرة على التضخم، حتى وإن كانت تلك القرارات لا تحظى بشعبية سياسية.

وتُعزز هذه الثقة الاستقرار المالي الدولي وتدعم مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية، مما يجذب الاستثمارات الأجنبية ويخفض تكاليف الاقتراض الأميركية للأسر والشركات. علاوة على ذلك، عندما يكون التضخم تحت السيطرة، يكون لدى الاحتياطي الفيدرالي مرونة أكبر للاستجابة لأي ضعف في سوق العمل - وهو النصف الآخر من مهمته.

وكل ذلك يترجم إلى نتائج أفضل للشعب الأميركي - انخفاض تكاليف الاقتراض، وانخفاض معدلات التضخم، وزيادة فرص العمل، ونمو اقتصادي أكثر استقراراً. الرئيس ترامب، كأي مواطن أميركي، له الحق في التعبير عن آرائه في السياسة النقدية. وسيكون لديه الفرصة لترك بصمته على الاحتياطي الفيدرالي من خلال تعيين خلَف للسيد باول عند انتهاء ولايته في الربيع المقبل. ومن أجل مصلحة الاقتصاد الأميركي، نحثه على اختيار شخص يحافظ على المسافة المناسبة بين الاحتياطي الفيدرالي والسياسة قصيرة الأجل، شخص ملتزم بالحفاظ على استقلالية البنك في اتخاذ قرارات السياسة النقدية.

إن مصداقية الاحتياطي الفيدرالي -أي قدرته الظاهرة على اتخاذ قرارات صعبة بناءً على البيانات والتحليل غير الحزبي- تُعد من الأصول الوطنية المهمة. ومن الصعب كسب هذه المصداقية ومن السهل فقدانها. والحفاظ على استقلالية السياسة النقدية عن الاعتبارات السياسية قصيرة الأجل لا يهدف إلى حماية أشخاص معينين أو بيروقراطية واشنطن، بل إلى حماية ازدهار أميركا.

بن برنانكي*

* رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من عام 2006 إلى عام 2014.

جانيت يلين**

**رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي من عام 2014 إلى عام 2018.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»



إقرأ المزيد