جريدة الإتحاد - 8/15/2025 10:04:10 PM - GMT (+4 )

أيُّ استفزاز هذا الذي يطلّ برأسه من جديد في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حين يتحدث عن «إسرائيل الكبرى»، وكأنّ التاريخ لم يشهد بما يكفي من ويلات هذا الفكر التوسعي؟ كلمات تحمل نبرة عنجهية متعالية، تعكس عقلية سياسية مازالت ترى في التوسع وفرض الأمر الواقع طريقاً مشروعاً لصياغة مستقبل المنطقة، غير مكترثة بما تركه هذا النهج من دماء ودمار وصراعات ممتدة لعقود. هو خطاب يعيدنا إلى مربعات الصراع الأولى، حيث يتقاطع الوهم التاريخي مع التحريض السياسي في مشهد واحد.
التصريحات التي أطلقها نتنياهو ليست مجرد رؤية سياسية، بل امتداد لعقيدة قائمة على فكرة إلغاء الآخر وتهميشه، وتغليف المشروع الاستيطاني بطابع ديني وسياسي يضفي عليه مشروعية زائفة. في جوهرها، تحمل هذه الرؤية محاولة لإعادة رسم خريطة المنطقة وفق ميزان القوة الذي تفرضه إسرائيل، بعيداً عن أي التزامات بالسلام أو القوانين الدولية. ووسط هذه اللغة التحريضية، تبرز الأسئلة الكبرى: ما المصلحة الفعلية التي يجنيها نتنياهو من طرح كهذا؟ وهل يعتقد أن هذا المسار يمكن أن يحقق الأمن أو الاستقرار لدولته، أم أنه مجرد استثمار داخلي في دعم قاعدته السياسية المتطرفة؟
ما يثير القلق هو أن هذا الخطاب لا يأتي في فراغ سياسي، بل يتزامن مع خطوات ميدانية على الأرض، من توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، إلى مصادرة الأراضي، إلى سياسات ممنهجة تهدف لقطع الطريق أمام أي فرصة لحل الدولتين. وكأن الرسالة الواضحة هي أن مشروع «إسرائيل الكبرى» ليس شعاراً انتخابياً بل خطة عمل تتسلل من بين بنود السياسات اليومية. وفي المقابل، يجد الفلسطيني نفسه أمام واقع يُراد له أن يصبح أمراً مسلّماً به، في ظل حصار سياسي وجغرافي لا يترك له سوى فتات الأرض وغياب الأفق.
ردود الفعل العربية، وإن جاءت غاضبة، تبدو أمام امتحان صعب. فالمطلوب ليس الاكتفاء بالإدانة اللفظية، بل صياغة موقف موحّد يضع حدوداً واضحة أمام أي محاولة لفرض هذا المشروع. فالتصريحات لم تكتفِ باستفزاز الفلسطينيين وحدهم، بل طالت السيادة العربية لدول الجوار، من الأردن إلى مصر إلى لبنان وسوريا. إن تبنّي رؤية توسعية بهذا الحجم هو إعلان مواجهة مفتوحة مع محيط جغرافي وتاريخي، وتهديد مباشر لمعادلة الاستقرار الإقليمي.
وعلى الصعيد العالمي، فإن هذه التصريحات تفضح بوضوح النوايا الحقيقية للحكومة الإسرائيلية، وتكشف أن خطابها أمام المجتمع الدولي ليس سوى غطاء يجمّل مشروعاً استعمارياً توسعياً. وهنا يطرح السؤال نفسه: أي جبن هذا الذي يجعل العالم يصمت أمام هذه النوايا الإجرامية المعلنة؟ كيف يمكن لدول كبرى تدّعي الدفاع عن القانون الدولي أن تتجاهل خطاباً كهذا وهي تدرك أنه يُقوّض أسس النظام الدولي ويشرعن الاحتلال والضم بالقوة؟ إن هذا الصمت ليس مجرد تقاعس، بل تواطؤ غير مباشر يمنح الاحتلال غطاءً للاستمرار في سياساته العدوانية، ويجعل قيم العدالة وحقوق الإنسان شعارات جوفاء عند أول اختبار حقيقي.
إلى متى سيبقى التطرف هو المتحكم في مفاتيح المستقبل في هذه المنطقة؟ وإلى متى ستظل الشعوب تدفع ثمن خطابات التحريض والإقصاء؟ الإجابة لن تكون في بيانات الاستنكار ولا في الجدل الإعلامي، بل في إعادة إحياء مشروع سياسي عربي ودولي يعيد الاعتبار للحق الفلسطيني ويحصّن سيادة الدول، ويضع سقفاً واضحاً لكل من يتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ. فالمنطقة التي أنهكتها الحروب لا تحتاج إلى خرائط جديدة من الوهم، بل إلى عقد جديد يقوم على الاعتراف والعدالة والشراكة الحقيقية، بعيداً عن أوهام «إسرائيل الكبرى» وأطماع من يروّج لها.
*لواء ركن طيار متقاعد.
إقرأ المزيد