تأبط سفراً.. وغامر عشقاً -1-
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

عشقت السفر ولا أدري السبب، وعرفته صغيراً، وحين أقول السفر أعني الاعتماد على النفس في كلّ شيء، وترتيب أمورك بنقودك القليلة، واستغلال كل الوقت والظروف من أجل قضاء وقت جميل في مكان غريب عنك، والاستفادة من تلك الزيارة علماً ومعرفة ومتعة، بحيث تكون حقائبك عند عودتك محملة بالكثير من الذكريات التي تزيد من أفق تفكيرك، وتنمي شخصيتك وتجعلك أكثر وثوقاً بالنفس، وتحفزك إلى السمو والترفع، وتعميق الأشياء الإنسانية في نفسك، لا يعني الاختلاف مع الإنسان الآخر ديناً وثقافة وعرقاً وجنساً أمراً يدعو للاحتراب، بل للاحترام.
كانت أول تلك السفرات الجميلة والتي أتمناها أن لا تنتهي، ما دامت الرِجل قادرة، والعافية تسمح، والدهشة باقية، أول بلد عربي سافرت له كان الأردن، وأول بلد خليجي كان البحرين، وأول بلد في شمال أفريقيا كان المغرب، رأيت البحرين طفلاً مرتين، وكانت تسمح له الذاكرة أن يملي عليها، حملوني لها مكسراً، وبـ«بَرّوَه» من الشيخ زايد، رحمه الله، وعلى طيارة «أم أحمد»، والأردن تالياً، مكافأة التفوق الدراسي في أوائل الثانوي، ولاحقاً المغرب للتفوق في أواخر الثانوي، وليتها كانت قبل ذلك، أما أول بلد أوروبي، فكانت إنجلترا ثم فرنسا في عمر السابعة عشرة، أما الشرق الأدنى والأقصى فكانت زياراتي الأولى إلى الهند أولاً، ثم تايلاند والفلبين وسنغافورة وهونج كونج في سنوات الجامعة الأولى، بعض هذه السفرات جاءت بالصدفة، وبعضها الآخر كان مخططاً له، تعددت البلدان، وتكررت بعض المدن، ثم كان الانتقاء في السفر بين جزر البحر، وقرى الجبال، ومدن صغيرة كأنها العالم بأسره من جمالها. 
خلال هذه الرحلات على مدى العمر القصير، ركبت طائرات خاصة، ودرجات مختلفة، وقطارات شحن، وقطارات درجة أولى، وسفن عابرة، ومرات في أجنحة بحرية، وسيارات فاخرة ليموزين، وسيارات خربة، أكلت في مطاعم فاخرة جداً جداً، كل شيء فيها محسوب بلا غلط، فما بالكم بطاساتها وصحونها وكأساتها، وخواتم من تجلس أمامك، وعطورها، والفرو المعلق في تلك الخزانة المحروسة، أكلت على رصيف المدن «ساندويتش حاف» وزجاجة كولا بالحجم العائلي أو على مقعد يترجرج في مطعم شعبي على الطريق السريع، تنقلت من فوق إلى أعلى المساحات التي تسمح بها الحياة، ونزلت إلى أسفل الدرجات، نمت مرة في حديقة عامة في اللاذقية، مع أغاني عبدالحليم حافظ من جهاز بث أغاني بالنقد المعدني، وسكنت مرة في منزل خرافي على نغم موج البحر وحده، ومرة شاركت عجوزاً أثيوبية كوخها وقهوتها، وأكلها القادم من ذاكرة الزمن، جربت أكل الشعوب وعاداتها، استطعمت بعضها وأكثرها، أقلها هو ما عافته نفسي، جلست في بيت عائلة يمنية، وسكنت عند أسرة إنجليزية، وأسرة فرنسية، وبيوت الطلبة، وفنادق فخمة للغاية، ومرة.. كانت في غرفتي فوق الـ 21 فوطة بمختلف الأحجام، جلست أتأملها بدلاً من استعمالها، سكنت في فنادق الـ«مسافر خانه» أيام مرحلة الكشافة، والسفر بنقود معدودة ومحدودة.
لم تكن عندي يوماً مشكلة في تذبذب الحال، واختلاف مستوى الأكل، والمركب، والمنام، أحببت مدن البحر الأبيض المتوسط لدرجة العشق، أعشق المدن التاريخية، أشعر أنها كالجدات الدافئات أو كالأمهات الطاهرات، أكره المدن الزجاجية والتي يمكن أن تبيعك أي شيء حتى روحها أو مخدع ضناها، كما أكره المدن الإسمنتية التي تعاملك كمسمار صدئ ملتصقاً بها.. وغداً نكمل.



إقرأ المزيد