جريدة الإتحاد - 11/9/2025 2:57:08 AM - GMT (+4 )
في الأيام التي أعقبت الهجوم على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، حذّر الرئيس الأميركي حينها جو بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من تكرار الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر. لم يُفصح بايدن علناً عمّا قصده تحديداً، لكن كان واضحاً أن تحذيره لنتنياهو جاء في سياق دعوته إلى عدم المبالغة في الرد على الصدمة التي ولّدها الهجوم أو التوسّع المفرط في رد الفعل، كما فعل الرئيس جورج بوش الابن بغزو العراق واحتلاله، واقتراح أجندة ديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة من شأنها أن تُغيّر الشرق الأوسط. استمرّت تلك الحرب الأميركية لأكثر من عقد من الزمن، كلّفت الولايات المتحدة أرواحاً وأموالاً هائلة وأضرّت بمكانتها الدولية، كما أدّت إلى تقوية إيران وظهور جماعات متطرّفة في بلاد الشام وشمال أفريقيا مثل «داعش».
إذا كان هذا ما قصده بايدن، وقد أوضح مسؤولو الإدارة ذلك، فقد كانت نصيحة سديدة - وربما الأصدق من بين ما قدّمه بايدن للإسرائيليين خلال فترة رئاسته. المشكلة، بالطبع، أن نتنياهو لم يُصغِ لتلك النصيحة، ولم تفعل الولايات المتحدة شيئاً لكبح جماح إسرائيل عندما قامت بما طُلب منها ألا تفعله. في الواقع، فعلت إدارة بايدن عكس ذلك تماماً. إذ تبنّت أهداف نتنياهو في هجوم إسرائيل على غزة. وقدّمت لإسرائيل عشرات المليارات من الدولارات على شكل أسلحة عسكرية، ودافعت عن أفعالها في الأمم المتحدة.
وعندما بات واضحاً أن الإسرائيليين يرتكبون جرائم حرب وإبادة جماعية، هدد بايدن وشركاؤه بفرض عقوبات على خبراء القانون الدوليين الذين يحققون في هذه الجرائم. كل ما فعلته الإدارة الأميركية خلال هذه الفترة هو حثّ نتنياهو، على استحياء، على التفكير في «اليوم التالي» وتقديم بعض مقترحات وقف إطلاق النار.
ورغم أن الإسرائيليين لم يقبلوا تماماً بنود مقترحات بايدن، وأوضحوا ما كانت حكومة نتنياهو تنوي فعله في «اليوم التالي»، إلا أن واشنطن لم تُوجّه لها أي توبيخ حقيقي. كان ينبغي على فريق بايدن أن يدرك أن نتنياهو لا يريد إنهاء الحرب، ولا يريدها كذلك شركاؤه في الائتلاف الحاكم، الذين تدفعهم أوهام «إسرائيل الكبرى» التي تشمل طرد الفلسطينيين من غزة، وضم الضفة الغربية، وتوسيع «نطاق الأمن» الإسرائيلي ليشمل أجزاء من لبنان وسوريا.
ومع استمرار الحرب، تطورت إلى صراع إقليمي. دخل حزب الله اللبناني وجماعة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن على خط المواجهة، مع عواقب كارثية للجميع. وردّت إسرائيل باغتيال قادة حزب الله وكوادره عبر حملة قصف ضخمة، وهجمات إرهابية باستخدام عبوات ناسفة في لبنان، ثم وسّعت نطاق الحرب إلى سوريا، ومن هناك إلى إيران، الداعم العسكري الرئيس لـ «حزب الله».
وبعد دخوله البيت الأبيض، اتّبع الرئيس دونالد ترامب نهج بايدن، مانحاً إسرائيل حرية التصرف والدعم السياسي، بينما، كعادته، طرح أفكاراً مُبالغاً فيها ومتناقضة في كثير من الأحيان. فقد حذّر ترامب نتنياهو من قصف إيران، ثم انضم إلى المعركة. وطرح خطة «غزة ريفيريا» سيئة السمعة، ثم عاد ليتبنّى عناصر من المبادرة العربية للسلام - ولكن فقط بعد أن منح نتنياهو فرصة لتعديلها.
وعندما أُعلن عن الخطة قبل أكثر من شهر بقليل، تباهى الرئيس ترامب بأنه «أعظم يوم في تاريخ البشرية» وأنه سيُغيّر وجه الشرق الأوسط بأكمله. بعد شهر فقط، لا تزال القنابل الإسرائيلية تتساقط على لبنان وغزة، وإنْ بوتيرة وكثافة أقل، وحدث تبادل للأسرى بين إسرائيل و«حماس». لكن باستثناء هذه التطورات المحدودة، لم يتغير الكثير على هذه الجبهات أو غيرها في مشهد الصراع العربي الإسرائيلي.
لا يزال الفلسطينيون في غزة يعانون من تضييق الخناق على يد الاحتلال الإسرائيلي. يتكدس أكثر من مليون شخص في مخيمات مكتظة في أقل من نصف مساحة غزة، التي انسحب منها الإسرائيليون، مع قلة أو انعدام الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة والرعاية الطبية والكهرباء ومرافق الصرف الصحي. تدور معارك بين حركة «حماس» وجماعات عشائرية مسلّحة من قبل إسرائيل. ولا تُبدي إسرائيل أي اهتمام يُذكر بالتخلي عن «محيطها الأمني» الموسّع حديثاً في غزة، والمضي قُدماً في المرحلة التالية من «خطة السلام». أقامت إسرائيل خمسة مواقع عسكرية في جنوب لبنان، وتواصل قصف القرى اللبنانية وفرق الأمم المتحدة الموجودة هناك.
ووسّعت إسرائيل احتلالها لجنوب سوريا، وتصرّ على بقائها هناك، مُبرّرةً ذلك بضرورة «حماية» السكان الدروز في سوريا. بينما سحبت إسرائيل تشريعات الكنيست لضم الضفة الغربية رسمياً، واصلت حركة الاستيطان المنظمة وجيشها الاستيلاء على ست عشرة قرية وإرهابها وإخلائها، مانعةً الفلسطينيين من فرصة حصاد محصول زيتونهم - الضروري لبقائهم - واعتقال وقتل الفلسطينيين الذين يحتجون على هذه السلوكيات القمعية. الخلاصة هي أن تحذير بايدن عام 2023 تم تجاهله بوضوح. وكما أدّت حرب جورج بوش الابن الكارثية واحتلاله للعراق - الذي كان من المفترض أن «يغير» الشرق الأوسط - إلى عِقد من الحروب وما زالت تبعاتها مستمرة حتى اليوم، فإن تجاوزات نتنياهو، المدعومة من الولايات المتحدة، قد غيّرت بالفعل وجه المنطقة - ولكن للأسوأ.
ستجد إسرائيل نفسها الآن متورطة بشكل أعمق من أي وقت مضى في صراع نشط على جبهات متعددة، دون نهاية تلوح في الأفق.أما مشكلتها الكبرى فهي أن احتلالاتها وحروبها مكلّفة وتتطلب دعماً أميركياً مستمراً. ومع ازدياد عدد الديمقراطيين، وارتفاع عدد صغير لكن متنامٍ من الجمهوريين الرافضين لتحمّل تكاليف هذه الحروب الإسرائيلية، فقد تكون أيام هذه السياسات المشينة معدودة.
*رئيس المعهد العربي الأميركي
إقرأ المزيد


