جريدة الإتحاد - 11/16/2025 1:04:54 AM - GMT (+4 )
على مدار السنوات القليلة الماضية، وجدت نفسي أطرح سؤالاً لم يخطر ببالي من قبل: ماذا نسمي العصر الذي نعيشه اليوم؟
لقد وُلدت في عصر الحرب الباردة. هذه الحقبة الأخيرة - تلك العقود التي تلت عام 1989 وتميزت بهيمنة القطب الواحد الأميركية- انتهت في عشرينيات القرن 21، مع الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، تلاه الحرب الأوكرانية، إلى فجّر منظومة الأمن الأوروبية التي تشكّلت خلال الحرب الباردة وبعدها، ثم جاء صعود الصين كمنافس اقتصادي وعسكري حقيقي للولايات المتحدة.
في البداية، فكرت أن أُطلق على هذه الحقبة الجديدة اسم «ما بعد الحرب الباردة»، لكن ذلك لم يكن منطقياً. نحن أمام ميلاد شيء جديد ومعقّد للغاية، علينا جميعاً التكيف معه، وبسرعة - ولكن ما هو الاسم الذي نُطلقه عليه؟
يطلق العديد من علماء المناخ على عصرنا الحالي اسم «الأنثروبوسين» - أي العصر المناخي الذي تقوده البشرية. أما خبراء التكنولوجيا فيسمّونه «عصر المعلومات» أو «عصر الذكاء الاصطناعي». بينما يفضّل بعض الاستراتيجيين تسميته «عودة الجغرافيا السياسية».
لكن أياً من هذه التسميات لا يُعبّر بدقة عن الاندماج الكامل الجاري حالياً بين تسارع التغيّر المناخي والتحولات السريعة في التكنولوجيا وعلم الأحياء والإدراك والاتصال وعلوم المواد والجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية. لقد أشعلت هذه التفاعلات انفجاراً من التداخلات بين كل الأشياء وكل المجالات - إلى درجة أن الأنظمة الثنائية التي كانت تحكم العالم بدأت تتحول إلى أنظمة متعددة.
يتسارع الذكاء الاصطناعي نحو «ذكاء اصطناعي عام متعدد المواهب»، ويتفاقم تغير المناخ ليتحول إلى «أزمة متعددة المواهب»، وتتطور الجغرافيا السياسية إلى تحالفات «متعددة المراكز» و«متعددة العلاقات»، وتنتشر التجارة التي كانت ثنائية في السابق لتتحول إلى شبكات إمداد «متعددة الاقتصادات»، وتتنوع مجتمعاتنا لتتحول إلى فسيفساء «متعددة الأشكال» أكثر فأكثر.
ككاتب في الشؤون الدولية، أصبحت اليوم مضطراً لمتابعة تأثير وتفاعل ليس فقط القوى العظمى، بل أيضاً الآلات فائقة الذكاء، والأفراد فائقي التأثير الذين يستخدمون التكنولوجيا لتوسيع نفوذهم، والشركات العملاقة العابرة للحدود، إضافة إلى العواصف المدمّرة والدول المنهارة، مثل ليبيا والسودان.
كنت أتأمل كل هذا يوماً مع «كريج موندي»، الرئيس السابق للبحث والاستراتيجية في مايكروسوفت. أخبرته أنه في كل مجال تقريبا كتبت عنه مؤخراً، كانت الأنظمة الثنائية القديمة تُفسح المجال لأنظمة متعددة مترابطة، مُبددةً بذلك تماسك نماذج الحرب الباردة وما بعدها.
قال موندي: «أعرف ما يجب أن تُسمّي به هذا العصر الجديد: عصر التعدد - البوليسين». كانت كلمة جديدة من ابتكاره. تعني «بولي» (poly) «الكثرة» أو «التعدد». لكن سرعان ما لفت انتباهي الاسم المناسب لهذه الحقبة الجديدة، حيث - بفضل الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والاتصال الواسع الانتشار - أصبح لكل شخص وكل آلة صوتٌ مسموع، ووسيلةٌ للتأثير على بعضهم البعض، وعلى الكوكب، بسرعةٍ ونطاقٍ لم يكن من الممكن تخيلهما من قبل.
إذن، مرحباً بكم في عصر التعدد - البوليسين. بدأت رحلتي عبر التحولات التي قادتني إلى مفهوم «البوليسين» في صيف عام 2024، بعد عامين من إطلاق تشات جي بي تي، عندما حضرت دروساً حول الذكاء الاصطناعي.
لقد كنت محظوظاً على مدى السنوات لأنني كوّنت شبكة من الخبراء في مجالات مختلفة، أسمّيهم «المعلّمين». وكان موندي، الذي بدأ حياته كمصمّم للحواسيب العملاقة، هو مرجعي الأول في قضايا الحوسبة منذ عام 2004.
وقد شرح لي أن «الكأس المقدسة» لثورة الذكاء الاصطناعي هي بناء آلة قادرة على «الذكاء العام متعدد الثقافات». آلة يمكنها أن تتقن الفيزياء والكيمياء والأحياء وعلوم الحاسوب والفلسفة وموزارت وشكسبير وحتى لعبة البيسبول، أفضل من أي إنسان، ثم تستنتج عبر كل هذه المجالات مجتمعة على مستوى إدراكي أعلى من قدرات البشر، لتنتج أفكاراً واكتشافات لا يمكن لأي إنسان الوصول إليها.
نحن نمرّ بمرحلة تحوّل إدراكي غير مسبوقة: ننتقل من الحوسبة القابلة للبرمجة - حيث لا يمكن للكمبيوتر أن يعكس سوى ذكاء من برمجه - إلى الذكاء الاصطناعي العام المتعدد، حيث نصف الهدف فقط، بينما يقوم الذكاء الاصطناعي بدمج البصيرة والإبداع والمعرفة الواسعة ليُكمل الباقي بنفسه. يقول موندي، إننا ننتقل من حدود الإدراك، مما يمكن للبشر تخيله وبرمجته، إلى ما يمكن لأجهزة الكمبيوتر اكتشافه وتخيله وتصميمه بمفردها.
من تغير المناخ إلى تعدد الأزمات
في عام 2024، تلقيت رسالة من «يوهان روكستروم»، مدير معهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ، كتب روكستروم أنَّه هو وزميله توماس هومر-ديكسون، المدير التنفيذي لمعهد كاسكيد في جامعة رويال رودز بمقاطعة كولومبيا البريطانية، سيعقدان ندوة في نيويورك خلال أسبوع المناخ، وسألني إن كنتُ أستطيع المساعدة في إدارتها.
قلت له «يسعدني ذلك» وسألته عن موضوع الندوة. فقال، إنها عن الأزمة المتعددة.
فكّرت أن هذا أمر مثير للاهتمام: معلّمي في الذكاء الاصطناعي يتحدث عن الذكاء العام متعدد المعارف (Polymathic AGI)، ومعلّمون في عالم الرقائق يتحدثون عن الرقائق المتعددة (Poly Chips)، والآن معلّمي في البيئة يتحدث عن الأزمة المتعددة (Polycrisis). ما قصة كل هذه الـ «بولي»؟
أصبح مصطلح «الأزمة المتعددة» حيث تم استخدامه لتسليط الضوء على كيف أن أزمة واحدة - مثل جائحة كوفيد أو حرب أوكرانيا - يمكنها أن تؤدي إلى اندلاع أزمات متعددة أخرى في أنحاء العالم.
لقد غطّيت بنفسي نسخةً مصغّرة من هذا النمط الديناميكي في سوريا خلال السنوات التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية عام 2011. فقد أدّت موجة جفاف تُعدّ الأسوأ منذ قرن - تفاقمت بسبب تغيّر أنماط المناخ - إلى تدمير المحاصيل الزراعية، مما أجبر مئات الآلاف من المزارعين السوريين على مغادرة أراضيهم والانتقال إلى أطراف. وهناك اصطدموا بارتفاع أسعار الغذاء، والبطالة، والتوترات العرقية والطائفية القديمة. ثم استخدم السوريون هواتفهم المحمولة لمتابعة الانتفاضات في مصر وتونس، التي كانت جزئياً نتيجة ارتفاع أسعار الغذاء - وبعد ذلك انفجر الغضب في سوريا.
تحوّل جيوسياسي
من الواضح أن هذا المزيج من تفكك الدول وتفكك التحالفات التي تأسست في حقبة الحرب الباردة يؤدي إلى جعل السياسة الجيوسياسية أكثر «تعددية في العلاقات» - أو كما يمكن وصفها اليوم بـ «تعدد التحالفات».
كان لدى الروس مثلٌ شعبي يقول: «من السهل تحويل حوض أسماك إلى حساء سمك، لكن من الصعب جداً تحويل حساء السمك إلى حوض أسماك».
واليوم ينطبق هذا القول على عدد كبير من الدول. فمن أوروبا إلى الشرق الأوسط، ومن أفريقيا إلى أميركا اللاتينية، تتحول العديد من «أحواض السمك» إلى حساء سمك مليء بالميليشيات الطائفية أو القبلية أو الشبكية فائقة القوة. وليس من قبيل الصدفة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب احتاج إلى الكثير من الوقت والجهد والضغط السياسي لجمع كل الدول والجيوش والميليشيات المختلفة في اتفاق هدنة بسيط في قطاع غزة. وربما يحتاج بقية فترة ولايته لمحاولة تحويل تلك الهدنة إلى سلام دائم - وربما لن ينجح.
عندما بدأت عملي الصحفي عام 1978، كان العالم يُعرَّف أساساً من خلال أنماط ثنائية واضحة: شرق وغرب - شيوعية ورأسمالية - شمال وجنوب.
وكانت معظم الدول تنتمي إلى أحد هذه المعسكرات. أما اليوم، فقد تحوّل العالم إلى رقصة مربعة فوضوية يتبدّل فيها الشركاء باستمرار.
الشبكات الاقتصادية المتعددة
لم تعد الاقتصادات الحديثة قائمة أساساً على تجارة ثنائية بسيطة بين دول ذات حدود واضحة وصناعات مغلقة على نفسها. بل إننا نعيش اليوم في أنظمة بيئية عالمية مترابطة، يطلق عليها «شبكات ديناميكية متداخلة» من المعرفة والمهارات والتكنولوجيا والثقة. وهذا يفسّر لماذا أصبحت معظم التجارة العالمية اليوم تشمل أكثر من بلدين.
فعندما تتجمع المعرفة والقدرات من مختلف الجهات، نصبح قادرين على ابتكار أشياء معقدة لحل مشكلات معقدة - بشكل أسرع وأرخص مما يمكن لأي دولة أن تفعله بمفردها.
كيف نحكم في عصر الـ«بوليسين»: في هذا العالم، يجب على الفاعلين الأساسيين أن يكونوا قادرين على تبنّي حالات متعددة والاحتفاظ بأفكار متناقضة في الوقت نفسه.
إن أكثر المجتمعات قدرة على التكيّف والمرونة والإنتاج في عصر البوليسين ستكون تلك التي تستطيع تشكيل تحالفات ديناميكية عبر القضايا - ما أسميه التحالفات التكيفية المعقدة. هذه التحالفات تجمع بين قطاع الأعمال، والعمال، والحكومات، ورواد العمل الاجتماعي، والمحسنين، والمبتكرين، والمنظمين، والمعلمين لحل المشكلات من خلال التوليف بدلاً من تأجيلها عبر ثنائيات النقض المتبادل.
وهذه هي الطريقة الوحيدة للتحرك بسرعة وتحقيق الإنجاز.
*صحفي أميركي.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
إقرأ المزيد


