جريدة الإتحاد - 11/16/2025 1:05:00 AM - GMT (+4 )
حين أقرت الأمم المتحدة السادس عشر من نوفمبر يوماً دولياً للتسامح، كانت تستحضر في خلفية القرار حاجة الإنسانية إلى بناء جسور بين الثقافات والأديان في مواجهة موجات التطرف والانغلاق، ولكن هذا اليوم في دولة الإمارات ليس مجرد مناسبة رمزية، بل تأكيد لنهج راسخ تتجسد قيمه في تفاصيل الحياة اليومية. فالتسامح في الإمارات ليس شعاراً، بل هو خيار وجودي ارتبط بتكوين الدولة نفسها، وبالرؤية التي صاغها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حين جعل من التنوع قوة، ومن احترام الآخر قاعدة للاستقرار والتقدم.
وقد أدركت دولة الإمارات منذ سنوات تأسيسها الأولى أن مشروع الاتحاد لا بد من تأسيسه على قاعدة الأخوّة الإنسانية والانفتاح والتعايش، فالدولة التي تستقبل على أرضها أبناء جنسيات من شتى أقطار العالم، وتمنحهم فرص العمل والعيش الكريم، تحتاج إلى منظومة قيمية تحمي هذا التعدد، وتحوله إلى مصدر قوة وازدهار. ومن هنا جاءت سياسات التسامح في دولة الإمارات متكاملة، وهي ليست مبادرات متفرقة، بل رؤية متجذِّرة في التعليم والتشريع والإعلام والثقافة. فالقوانين التي تحظر خطاب الكراهية والتمييز، والمناهج التي تُعلي من قيم الاحترام والاختلاف، والبرامج الثقافية والفنية التي تحتفي بالتنوع، كلها تشكل نسيجاً متماسكاً يعبِّر عن روح مجتمع دولة الإمارات.
ولعل أبرز ما يميز النموذج الإماراتي أنه تجاوز المفهوم الأخلاقي للتسامح إلى المفهوم الحضاري المؤسسي، حيث تم تأسيس وزارة معنية بالتسامح والتعايش، في سابقة عالمية جعلت من التسامح سياسة رسمية ذات أطر تنفيذية ومؤشرات أداء. ثم جاء «عام التسامح 2019» ليؤكد أن الفكرة ليست احتفالية، بل استراتيجية وطنية تسعى إلى تحويل القيم إلى ممارسة واقعية. وفي ذلك العام استضافت دولة الإمارات لقاءَ الأخوة الإنسانية التاريخي بين فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وقداسة البابا فرنسيس، الذي توِّج بتوقيع «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي أصبحت مرجعاً عالمياً لترسيخ قيم السلام والتعايش المشترك. وتنعكس هذه القيم في المشهد اليومي للحياة في دولة الإمارات، فهنا يعيش أبناء أكثر من مئتي جنسية في بيئة يسودها الاحترام المتبادل، من دون أن يشعر أي منهم بالغربة أو التمييز.
المساجد والكنائس والمعابد تتجاور في مساحة واحدة من السلام، والمؤسسات الحكومية والخاصة تحتضن موظفين من ثقافات شتى يعملون بروح الفريق الواحد، والمدارس تزرع في الأجيال الجديدة قيم التعاون والاحترام منذ الصغر، على النحو الذي جعل من التسامح ثقافة مجتمعية وممارسة دائمة.
ويمثل التسامح ركناً جوهرياً من أركان الرؤية المستقبلية لدولة الإمارات، فحين تتحدث القيادة الرشيدة عن «مجتمع متلاحم آمن وسعيد»، فإنها تضع التسامح في صميم هذه الرؤية، بوصفه الضمانة الحقيقية للاستقرار الاجتماعي والابتكار والإبداع، فالمجتمع المتسامح هو وحده القادر على احتضان الأفكار الجديدة، وبناء بيئة إنتاجية تقوم على الثقة والانفتاح، والإمارات، وهي تمضي نحو مستقبلها الرقمي والمعرفي، تحرص على أن تبقى القيم الإنسانية هي البوصلة التي توجه هذا التقدم.
لقد أصبح التسامح في تجربة دولة الإمارات جزءاً من قوتها الناعمة، وهي تحرص في كل المناسبات والمواقف على التأكيد أن السلام لا يُصنع بالقوة، بل بالفهم المشترك، والإرادة الصادقة. وفي عالم تزداد فيه الانقسامات، والحروب الخطابية، والهويات المغلقة، تمضي الإمارات في تقديم دروس عملية مفادها أن التعدد لا يعني التنافر، وأن الانتماء إلى الوطن يمكن أن يجمع المختلفين في دينهم وثقافتهم تحت راية واحدة.
إن الاحتفال باليوم الدولي للتسامح في دولة الإمارات هو احتفاء بالذات الوطنية وهو مناسبة للتذكير بأن جذور التسامح في هذه الأرض راسخة وقوية. وإذا كان العالم يبحث عن نموذج عملي للعيش المشترك، فإن الإمارات تقدمه اليوم بملامح واضحة: مجتمع متماسك يحتضن التنوع، ودولة تؤمن بأن الإنسانية أكبر من كل الاختلافات.
*صادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
إقرأ المزيد


