جريدة الإتحاد - 1/20/2025 10:46:52 PM - GMT (+4 )
(46) وإِنْ تَكُنْ تَغْلِبُ الغَلبَاءُ عُنصُرَهَا * فَإِنَّ فِي الخَمْرِ مَعنًى لَيسَ فِي العِنَبِ
البيتُ من قصيدةٍ يَرْثي فيها أبو الطيب أُخْتَ سيفِ الدولةِ الحَمْدانيِّ، وبَنُو حَمْدانَ قَبِيلَتُهم تَغْلِبُ، القبيلةُ العربيةُ المعروفةُ، وقد ذَكَرَها المتنبي في بيتِ القَصِيدِ.
الغَلْبَاءُ: قِيلَ: أيْ التي اِعْتَادَتْ التَغَلُّبَ على غيرِها من القبائِلِ، لِقُوَّتِها وتَمَكُّنِها وقُدْرَاتِها القِتَالِيةِ الفائِقَةِ. وقيلَ: الغَلْباءُ أيْ الشَّديدَةُ. وقيلَ: الغلباءُ أيْ غَلِيظَةُ الرَّقَبَةِ، وهو وصفُ قَبيلةِ تَغْلِبَ، ويُوصَفُ التَّغْلِبِيِّون بأنَّهم غِلَاظُ الرَّقَابِ، لأنَّ رُؤوسَهُمْ لا تَنْخَفِضُ لأَحَدٍ، ولَا تُطَأْطِئُ (تَنْزِلُ) أبداً، والرُّؤوسُ تَحْمِلُها الرِّقابُ، والرِّقابُ الغليظةُ لا تَنْحَنِي.
عُنْصُرُها: أصْلُها. العُنْصُرُ: الأساسُ الذي يُبْنَى عليه، والأصلُ الذي يُتَفَرَّعُ مِنْه.
المعنى: يقولُ إنَّ المُتَوَفَّاةَ، وإنْ كان أصلُها مِن قبيلةِ تَغْلِبَ، المشهودِ لها بالبَسَالَةِ والقُوَّةِ، فإنَّ فيها من صِفاتِ الكَمالِ والفَضْلِ والتَّمَيُّزِ، مَا لَيْسَ في َتْغْلِبَ، على ما في تَغْلِبَ (الغلباءِ) مِنْ قُوَّةٍ وشَجاعةٍ وتَفَوُّقٍ على غيرِها من القبائِلِ. ومثلُ ذلك، فإنَّ الخَمْرَ أصْلُهُ العِنَبُ، إلَّا أنَّه لا يَتَطابَقُ مَعَهُ في المَعْنَى، لأنَّ فيه مَعْنًى ليسَ في العِنَبِ، وإنْ كانَ العِنَبُ هو عُنْصُرَ الخَمْرِ الذي نَشِأَ عَنْه.
وهذا المعنَى، هو ما أكَّدَهُ المتنبي، في بيتِ القصيدِ المَاضي، بقولِه:
وَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وأَنْتَ مِنْهُمْ فإنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ
ومِنْ بِديعِ قولِه في عَجُزِ البَيْتِ:
فَإِنَّ فِي الخَمْرِ مَعنًى لَيسَ فِي العِنَبِ
أنْ مَيَّزَ فيهِ بِنَبَاهةٍ بين عُنصُرَيْ الخَمْرِ والعِنَبِ، على أَسَاسِ اِخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِما، وليسَ من جِهَةِ اِخْتلافِ النتيجةِ مِنْهُما، أوْ من تَبَايُنِ الأَثَرِ.
فَقَد اِسْتخدمَ المتنبي (المَعْنىَ)، للتَّعبِيرِ عَنِ التَّبَايُنِ بَيْنَ مَفْهومِيْ العُنْصُرَيْن، ولَمْ يَسْتَخْدِمْ (الأَثَرَ)، الذي يُخَلِّفه الخَمْرُ، مثَلًا، للتَّفْرِيقِ بينَه وبينَ العِنَبِ، بناءً على ما يَتْرُكُه تَنَاوُلُ كُلٍّ مِنَ النَّوْعَيْن مِنْ نَتيجةٍ وأثَرٍ في مَن يَتَنَاوَلُهُما.
(47) ومَن يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ * يَجِدْ مُرّاً بِهِ المَاءَ الزُّلَالَا
وهذا بيتٌ من الأَمْثَالِ السائِرَةِ من شِعْر أبي الطيب، وباتَ يُسْتَخْدَم تَعْبِيراً عنِ الحِكْمَةِ، والتَّجْرِبَةِ.
ويُقال البَيْتُ لمَنْ لَمْ يُرْزَق الذَّوْقَ لفَهْمِ الشِّعْرِ الرَّائِعِ. يقول عبدُالعزيز عتيق في كتاب «علم البَيانِ» إنَّ فَسادَ الطَّعْمِ قد لا يَكونُ بالمَادَّةِ التي تُشْرَبُ، بل بالفَمِ الذي يَشْرَبُ.
ومَعْلومٌ أنَّ المَرَضَ، يَنْزِلُ على المريضِ بالألَمِ، واعْتِلِالِ النَّفْسِ، واسْتِنْكَارِ ما لا يُسْتَنْكَرُ، فمِنْ ذلك أنَّ المريضَ يَجِدُ مَرارَةً لِكُلِّ ما يَشْرَبُه مِنْ سَوائِلَ على اخْتِلَافِ أَنْواعِهَا، وليسَ فيها مُرٌّ، لكنَّ المَرارِةَ مِنْ آثارِ المَرَضِ التي يَضعُها في الفَمِ، فَيِظُنُّ المريضُ الطَّعْمَ في المَشْروبِ، والحقيقةُ أنَّه في فَمِ الشَّارِبِ.
والزُّلَالُ: الماءُ العَذْبُ السَّلِسُ في نُزُولِه للحَلْقِ مِنْ عُذُوبَتِهِ.
والحالُ ذاتُه مع أصحابِ النُّفوسِ الرَّدِيئَةِ، إذْ لا يَرَوْنَ مَكارِمَ الكِرَامِ، لَا لِنَقْصٍ في الكَرَمِ ولا في الكِرَامِ ولا فِي مَكَارِمِهِمْ، ولكنَّ القبيحَ لا يَرَى إلا قَبِيحاً.
يقولُ أَرِسْطُو: النَّفْسُ البَهِيمِيَّةُ لا تَرَى الأشياءَ إلَّا بِطَبْعِهَا.
ولَيْتَ الذين زَعَمُوا أنَّ بيتَ المتنبي مأخوذٌ من قولِ أَرِسْطو، يَتَفكَّرُون في النَّفْسِ البَهِيمِيَّةِ التي أشارَ إليها أَرِسْطو، ولَعَلَّهم يُرَاجِعون ما في أَفْوَاهِهِمْ مِنْ مَرَارَةٍ، لعلَّهم يَسْتَطيبُونَ الحُلْوَ قَريباً!
(48) وَمَا كُلُّ هَاوٍ لِلْجَمِيلِ بِفَاعِلٍ * وَلَا كُلُّ فَعَّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ
كأنّي بالمتنبي يقولُ: حُسنُ النِّيَّةِ، لا يكفي لصَوابِ العَمَلِ.
لا شَكَّ في أنَّ الذي يُحِبُّ الأشياءَ الجميلةَ، خَيرٌ مِمَّنْ لا يُحِبُّها. الأوَّلُ يَنْطلِقُ من أصلٍ طَيِّبٍ، والثاني تَمْنَعُه نَفْسُه من حُبِّ الجميلِ، لتَبَايُنِها مَعَه.
لكنَّ حُبَّ الجَميلِ لا يعني أنَّ كُلَّ مُحِبٍّ له يَفْعَلُ هذا الجَميلَ...
كما أنَّ الذي يَفْعل الفِعْلَ الجَميلَ، ليس بالضرورةِ أنْ يكونَ فِعلُه للجَميلِ مُكْتَمِلاً حتَّى تَمَامِه، فبَعْضُ الناسِ يَفْتُرُ عن مُواصلةِ الأفعالِ الجميلةِ، وبَعْضُهم لا يُحْسِن إِتْمَامَ العملِ، أو فِعْلَه على الوَجْهِ الأتَمِّ الأكْمَلِ!
إنَّه وَصْفٌ لِمَا يُسمى: الحُبُّ النَّاقِصُ...
كما يدخُلُ في المعنَى ذاكَ الذي يَتَكَلَّمُ بالوُعودِ، بلا تَنْفِيذٍ عَمَلِيٍّ لَها!
إنَّه كَمَنْ يدعُو أصحابَه لِوَليمَةِ الغَداءِ، ويَعِدُهُم بأنَّه سَيَطْهُو لَهُمْ طعامَهم، وبعد أن يَضَعَ المقاديرَ في القِدْرِ، يُطْفِئُ النَّارَ، ويُعْلِنُ أنَه قرَّرَ الرُّجوعَ عن وَعْدِه، فَلَا يَطْهُو شيئاً، ولا يُتِمُّ الدَّعْوةَ!
إقرأ المزيد