جريدة الإتحاد - 1/21/2025 12:23:10 AM - GMT (+4 )
كنت في سفرة، وقلت: والله لأجرب أن انقطع عن الإنترنت ثلاثة أيام، وأقفل الباب على الطفل المدلل، لا يرى وجهي، ولا أرى شاشته التي أصبحنا لها طائعين، خانعين، وبعدين شو بيصير في الدنيا؟ كان يبدو لي تحدياً بسيطاً، لكنه كان الأصعب على النفس بعدما صرنا حبيسي هذا الجهاز الذي هو نحن أو نحن كلنا فيه.
بعد ساعات قليلة من الانقطاع عن العالم الرقمي، ستبقى تناظر هواتف الناس، فتشعر بذلك اليُتم الغريب، ثم تبدأ تتحكك، ولا تعرف لذلك سبباً، ثم حين تنظر إلى واحد يلاعب هاتفه بين أصابعه منفعلاً ومتفاعلاً معه، تشفق على نفسك لدرجة المواساة، تقول معزياً نفسك: الآن ارتحت من إزعاجات وكلاء بيع العقارات، ومندوبي البطاقات الائتمانية، والوسطاء الماليين والعيادات التجميلية، والمروجين للعملات المشفرة، لكن مع ذاك تظل الخواطر تهلّ عليك، يمكن فلان اتصل، يمكن فلانه تريد مني شيئاً، وأنا مغلق هاتفي، هناك فرص لا تأتي إلا وأنت ساه أو لاه أو غاف أو مغلق نقّالك! طيب.. يمكن صار شيء في العالم غير حرائق لوس أنجلوس، ثم تبدأ عادة جديدة وطارئة عليك، في كل لحظة تتحسس جيبك أو تضع يديك في جيوبك أو تغدو مثل المُضيع حقه في السوق المزدحم، وفي الليالي تكون الأحلام الرومانسية والأفلام الملونة كلها منصبّة على النقّال، وتدور حول ذاك الجهاز، في كيف الحصول عليه من جديد أو يتراءى لك مُذهباً يتلامع من بعيد، وقد تمت ترقيته إلى «آيفون 16»، ومرات تحلم أن ثبانك مليء بالهواتف، وكلها مُرِطت منك فجأة، وهكذا مضت الأيام الثلاثة، وكأنك كنت صائماً الدهر، ومنقطعاً للنسك والبُعد عن الناس ومخالطتهم.
السؤال.. لا نستطيع البُعد ولا أن نفارق هواتفنا التي هي عكازة الزمن الجديد، والتي لنا فيها مآرب أخرى، تطورت الأمور وأصبحت أكبر من العادة، وألزم الرفقة والمصاحبة، لكنك حين تفتحه بعد الصيام، وكلك شوق وتوق بعدما كان بودك أن تكون بسيطاً وبريئاً دون تعقيدات العالم الإلكتروني وأرقامه النصابة، وشبكاته العنكبوتية المتفرعة، تكون اتصالات الصباحية المباركة، بكلمات كأنها تقول: معقول.. وين هالغيبة، عسى ما شر؟! حتى في الغياب لا يتركونك في حالك، يشبكونك على الستالايت، ويمررون لك مكالمات من كندا الفجر، ويدخلونك من خلال منصات على الهاتف لأماكن مجهولة ولا تعرفها، ولا تحب أن تعرفها لكنها أسرع من حركة أصابعك، فيدفعونك دفعاً نحو تلك المتاهات الرقمية، وصورها الكاذبة، لكنك لا تستطيع المشي وحدك، لابد من تلك العكازة التي تسندك في هذا الزمن الرقمي المخيف!
إقرأ المزيد