عندما تجر السياسة الاقتصاد إلى الهاوية!
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

لا يمكن إنكار التغيير السياسي الذي طرأ على الاقتصاد الأميركي، فعلى الأقل منذ عهد خبيري الاقتصاد فريدريك هايك وجون ماينارد كينز في أوائل القرن العشرين، كان الانقسام في الفكر الاقتصادي مُشابهًا تقريباً للانقسام السياسي. وفي التيار السائد، كان الجميع رأسماليين، وكان للحكومة دور ما. وكان الانقسام بين اليمين واليسار يدور في الغالب حول حجم هذا الدور. أما الآن، فكما هو الحال في السياسة، لم يعد الانقسام في الاقتصاد بين اليسار واليمين، بل بين المعتدلين والشعبويين.

لم تعد المسألة تتعلق بالحجم الأمثل للحكومة ضمن اقتصاد سوق عالمي، بل بما إذا كان الاقتصاد إيجابياً أو ذو محصلة صفرية، وكيف يرسخ السلطة والنفوذ. وقد أدى هذا إلى ظهور حلفاء وأعداء غير متوقعين. وتقول «نظرية حدوة الحصان» في السياسة إن المتطرفين من اليسار واليمين يتفقون مع بعضهم أكثر من اتفاقهم مع المعتدلين داخل حزبهم. وتنطبق النظرية الآن على الاقتصاد أيضًا.

وقبل 15 عاماً، انقسم الاقتصاديون وواضعو السياسات بشأن أمور تبدو الآن ضئيلة، مثل هيكل قانون الرعاية الصحية الميسورة (أوباماكير)، على سبيل المثال.

أما الآن، هناك صعوبة في الاختلاف مع كتاب اقتصاديين من يسار الوسط، كانت آراؤهم مُلفتة في السابق. قد يكون السبب أننا جميعاً نميل إلى الاعتدال مع التقدم في العمر. لكني أعتقد بأن السبب الحقيقي أن طبيعة النقاش قد تغيرت. فالنقاش بات يدور بشكل متزايد حول أسئلة نراها نحن المعتدلين محسومة منذ زمن، مثل: هل ضوابط الأسعار فعالة (لا)، أو هل العولمة جيدة (نعم)، أو هل يجب أن يكون النمو هو الهدف الرئيسي (بالطبع). لقد أعيد طرح هذه الأسئلة لأن الشعبويين باتوا يشكلون قوة أكبر وأكثر تأثيراً في السياسة الأميركية، ومع صعودهم، يكتشف المعتدلون أن لديهم قواسم مشتركة مع بعضنا البعض أكثر من أطراف معسكرات المتطرفين.

ولست وحدي من يرى ذلك، فقد وصف الصحفي عزرا كلاين مؤخراً انقساماً في الحزب «الديمقراطي» حول ما يُسمى بأجندة الوفرة، وهي فكرة تقول إن التخلص من عدة لوائح وعوائق تفرضها جماعات المصالح الخاصة يُمكن أن يُطلق العنان لمزيد من النمو. ويُجادل ما يُسمى ب«ليبراليي الوفرة» بأنه يُمكن للحكومة زيادة النمو الاقتصادي وتحسين أحوال الجميع من خلال تبني سياسات صحيحة. ويرفض الجناح الأكثر شعبوية في الحزب الديمقراطي هذا النهج، لأنه يرى أن المشكلة الحقيقية تكمن في السلطة، حيث أنه يمتلك رؤية اقتصادية صفرية، يستولي فيها الأقوياء، الشركات والأغنياء عادة، على معظم الموارد المحدودة التي يحق للجميع الحصول عليها.

أنا أقرب إلى ما يُعرف بـ«الليبراليين المؤيدين للوفرة»، الذين يرون أن الحل هو في توسيع حجم الكعكة الاقتصادية، من أولئك «الليبراليين الشعبويين»، الذين يرون أن المهم هو تقسيم شرائح الكعكة بشكل متساوٍ تماماً. كما أنني أؤيد إزالة اللوائح المهدرة والدعم الموجه لمجموعات المصالح الخاصة. الفرق بيننا أنني أرى أن إزالة هذه العوائق يجب أن تهدف إلى تمكين القطاع الخاص ليقود النمو، وليس توسيع دور الحكومة.

وهذا ليس بالفرق الهين، ومن المرجح أن يمزّق تحالفنا الهش يومًا ما، لكن في الوقت الراهن، وبالمقارنة بالبدائل، يبدو وكأنه خلاف لغوي لا أكثر. ويواجه المحافظون انقساماً مشابها لذلك الذي وصفه كلاين بين الليبراليين، فالتيار الشعبوي «اليميني» يرى العالم من منظور محصلته صفر، ويدين تركز السلطة، ليس في أيدي الأثرياء، بل بين الأجانب والمؤسسات مثل الجامعات، وشركات التكنولوجيا، والبيروقراطيات الحكومية، والهيئات الدولية، وغيرها.

وقد عكست إدارة الرئيس دونالد ترامب هذا الانقسام، حيث ضم فريقه الاقتصادي ممثلين عن جناح الحزب «الجمهوري» التقليدي المؤيد للنمو، مع اقتصاديين مدربين وخبراء في القطاع المالي، إضافة إلى ممثلين للجناح الأكثر شعبوية الذي يتبنى المنظور الصفري، والذي يهيمن عليه خريجو كلية الحقوق بجامعة «يل» ورفاقهم. سيُشكل هذا التغيير في التوجه الخطاب والسياسات الاقتصادية الأميركية في المستقبل المنظور، فبدلًا من الانقسام اليميني اليساري حول دور الحكومة، سيكون النقاش الرئيسي في المستقبل بين الوسطيين والشعبويين، حيث يتوحد المؤيدون لأحد الجانبين حول رغبتهم في سن قانون ضريبي أكثر كفاءة ورغبتهم في تقليص اللوائح التي تُفضل جماعات المصالح الخاصة، إضافة إلى حماسهم لتحقيق النمو. أما الجانب الآخر، فهو مهووس بمحاربة القوى المهيمنة التي يزعم أنها تقوض الازدهار في عالمٍ يشهد شحاً متزايداً في الموارد. ولا أعلم كيف سينتهي هذا كله. فإذا عاد الحزب «الجمهوري» ما بعد ترامب إلى الوسطية الاقتصادية، فقد يجتذب بعض أنصار اليسار الوسطي القدامى، لاسيما إذا اختار «الديمقراطيون» اتباع أجندة شعبوية.

أو قد يحدث العكس، حيث يرشح «الديمقراطيون» شخصية وسطية في انتخابات 2028 ويكسبون تأييد العديد من أنصار السوق الحرة في اليمين المعتدل. وثمة احتمال آخر، وهو أن يتبنّى كلا الحزبين النهج الشعبوي، مما يتركنا نحن الوسطيين الساخطين نتجمع معاً في معمعة صناعة السياسات.

وتشير نتائج الانتخابات التمهيدية لعمدة نيويورك الأسبوع الماضي، والتي فاز بها زهران ممداني، إلى أن الشعبوية الاقتصادية اليسارية ما تزال تحظى بمساحة للنمو. ما هو واضح أن الشعبويين يزداد نفوذهم لسبب ما، ومن المهم التفاعل معهم ومع أفكارهم. لقد حققنا نحن الوسطيين نجاحاً باهراً. والآن، علينا أن نعمل بجهد أكبر لفهم سبب عدم الاقتناع بحجتنا.

*أستاذة اقتصاد، وزميلة بارزة في معهد مانهاتن.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»



إقرأ المزيد