سكاي نيوز عربية - 9/16/2025 8:10:31 AM - GMT (+4 )

وما إن انتهى المؤتمر الصحفي المشترك حتى اتجهت الأنظار إلى الفقرة التاسعة تحديداً، التي حملت ملامح تحول مهم في الموقف العربي، وربطت الأمن الإقليمي ربطاً عضوياً بالقضية الفلسطينية.
في هذا السياق، جاء حديث السفير حسام زكي، الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، على برنامج التاسعة عبر سكاي نيوز عربية، ليقدّم قراءة مختلفة: قراءة تُسقِط صورة نتنياهو المتحدّي وتضعها في خانة المأزق، وتعيد تعريف سقف التحرك العربي ليس من خلال شعارات الشارع، بل عبر محددات السياسة الواقعية في العواصم.
الفقرة التاسعة: جوهر البيان ومفتاح الموقف العربي
أولى رسائل زكي تمركزت حول الفقرة التاسعة، التي صيغت بالأساس في اجتماع وزراء الخارجية العرب بالقاهرة، كمبادرة مشتركة بين مصر والسعودية. هذه الفقرة لم تكن تفصيلاً عابراً، بل ـ كما وصفها زكي ـ "مفهوم في غاية الأهمية"، لأنها أرست قاعدة: لا ترتيبات أمنية إقليمية دون حل عادل للقضية الفلسطينية.
بمعنى آخر، أسقطت الفقرة منطق "السلام مقابل التطبيع" الذي حاولت إسرائيل فرضه عبر السنوات الأخيرة. فالتصور الإسرائيلي عن بناء شراكات أمنية مع بعض الدول العربية بمعزل عن القضية الفلسطينية، وصفه زكي بوضوح بأنه "أوهام محكومة بالسقوط".
هذه الإشارة ليست خطاباً عاطفياً موجهاً للشارع، بل خريطة طريق سياسية تبعث برسالة لإسرائيل: أي مشروع للأمن الإقليمي سيظل هشّاً ومؤقتاً ما لم يتعامل بجدية مع جوهر النزاع، أي فلسطين.
ما بين طموح الشارع ومحددات العواصم
لفت زكي إلى نقطة حساسة في الحوار: "أنا لا أعرف عن طموح الشارع، لأنه طموح الشارع أحياناً يكون سقفه لا محدود، لكن أعلم عن محددات القرار في العواصم العربية".
هذه العبارة تكشف عن توازن دقيق. هو لا يقلل من قيمة الشارع، لكنه يذكّر أن صناعة القرار في النهاية تحكمها معادلات السياسة، الأمن، الاقتصاد، والتحالفات. الطموح الشعبي يريد أكثر مما تستطيع الأنظمة تحقيقه دفعة واحدة، والبيان الختامي ـ رغم سقفه المرتفع ـ عكس هذا التوازن بين الرمزية السياسية والقدرة العملية على التنفيذ.
نتنياهو في مأزق.. لغة التحدي كستار للفشل
أكثر ما شدّد عليه زكي هو توصيفه المتكرر لتصريحات نتنياهو بأنها "مأزومة". رئيس الحكومة الإسرائيلية ـ بحسب تحليله ـ فشل في بلوغ هدفين محوريين من العدوان على قطر:
- إسقاط أو إضعاف قطر كداعم سياسي وإعلامي للمقاومة الفلسطينية.
- استهداف قيادات محددة في حركة حماس، كانوا مفوضين للتفاوض حول وقف إطلاق النار.
هذا الفشل جعل نتنياهو يلجأ إلى لغة تهديد مفتوحة، مثل إعلانه استعداده لملاحقة عناصر حماس في أي مكان في العالم. بالنسبة لزكي، هذه ليست تعبيراً عن قوة بل عن عجز: "تصريحات مأزومة لا يجب أن نعطيها حجماً أكبر من حجمها".
الأهم أن السفير ربط هذه اللغة بالتغير الذي أعقب القمة والتدخل الأميركي، مشيراً إلى أن "الأمور لن تستمر بهذا القدر الكبير من التحدي". الرسالة واضحة: نتنياهو قد يرفع صوته، لكنه عملياً يواجه تضييق خيارات.
سقف سياسي مرتفع.. ومرونة في التطبيق
وصف السفير حسام زكي البيان الختامي بأنه "موقف سياسي جيد جداً مرتفع السقف". لكن ما جعل الموقف متوازناً هو الجمع بين حدة الموقف السياسي ومرونة التطبيق العملي.
فقد فتح البيان الباب أمام أي دولة ترغب في مراجعة علاقاتها مع إسرائيل ـ سواء سياسية أو اقتصادية ـ من دون إلزام. هذا التوجه يعكس إدراكاً أن الدول العربية ليست كتلة صلبة واحدة؛ فهناك من يرتبط باتفاقيات سلام قديمة، وهناك من دخل مسار التطبيع مؤخراً، وهناك من يرفض أي علاقة.
إبقاء الخيار مفتوحاً من دون إجبار يعطي مساحة لكل عاصمة لتقدير الموقف وفق مصالحها، لكنه في الوقت ذاته يوجه رسالة لإسرائيل بأن صفحة العلاقات ليست مضمونة ولا نهائية، ويمكن أن تُراجع متى وُجدت ضرورة.
قراءة في الرسائل السياسية
من خلال حديثه، يمكن رصد عدة رسائل ضمنية:
- إلى إسرائيل: لا تراهنوا على تجاوز القضية الفلسطينية، ولا تتعاملوا مع لغة التحدي كأداة ناجحة. المأزق أكبر مما تظنون.
- إلى العواصم العربية والإسلامية: هناك أرضية مشتركة قابلة للبناء عليها، لكن كل دولة ستحدد وتيرة خطواتها.
إلى الشارع العربي: سقف الطموحات الشعبية مشروع، لكن السياسة تتحرك وفق خطوات متدرجة، والبيان الختامي خطوة أولى وليست نهاية المسار.
إلى المجتمع الدولي: التدخل الأميركي كان حاسماً في تهدئة حدة التصعيد، لكن القمة أظهرت أن العرب يملكون أدوات ضغط لا يمكن تجاهلها.
إسقاط أوهام "السلام بدون فلسطين"
في صميم خطاب السفير حسام زكي يكمن تفكيك لرواية إسرائيلية رافقت مسار التطبيع: أن بالإمكان هندسة أمن إقليمي وتحالفات اقتصادية ودفاعية مع بعض الدول العربية من دون التطرق الجدي إلى فلسطين.
لكن وفق صياغة البيان وتفسير زكي، هذه الرواية محكومة بالفشل البنيوي. إذ كيف يمكن بناء ترتيبات أمنية بينما الاحتلال قائم والاعتداءات مستمرة؟ هذا الطرح يعيد المعادلة إلى مربعها الأساسي: فلسطين ليست ملفاً جانبياً بل الشرط الأول لأي مشروع إقليمي.
مأزق نتنياهو بعد الدوحة
أبرز ما حاول زكي التأكيد عليه هو أن قمة الدوحة غيّرت قواعد اللعبة. فنتنياهو الذي كان يراهن على أن إسرائيل قادرة على فرض أجندتها عبر القوة العسكرية وجد نفسه أمام:
- بيان عربي إسلامي جامع يربط أمن المنطقة بالقضية الفلسطينية.
- مساحة مفتوحة للدول لمراجعة علاقاتها، ما يعني تهديداً غير مباشر لمكاسب التطبيع.
- دور أميركي ضاغط للحد من التصعيد، مما يضيّق مجال المناورة أمام إسرائيل.
هذه العناصر تجعل "لغة التحدي" أقل فاعلية. فإسرائيل ليست وحدها في الميدان، والموقف العربي ـ وإن لم يكن ملزماً بالكامل ـ يضعها في مواجهة جبهة سياسية واسعة.
بين الخطاب والواقع.. أين يذهب الموقف العربي؟
البيان المرتفع السقف يفتح الباب على سؤال مهم: هل يظل موقفاً رمزياً، أم يتطور إلى إجراءات عملية؟
السفير حسام زكي نفسه لم يقطع الطريق، بل ترك الباب مفتوحاً قائلاً إن ما جرى "أمر طيب جداً وإيجابي وربما يعقبه أمور أخرى وخطوات أخرى".
هذا التوصيف يعكس إدراكاً أن التحركات السياسية عادة تبدأ بالرمزية، ثم تُختبر على أرض الواقع. فإمكانية مراجعة العلاقات مع إسرائيل، مثلاً، قد تبدو الآن خياراً افتراضياً، لكنها في لحظة سياسية حرجة يمكن أن تتحول إلى قرار فعلي لبعض العواصم.
ما بعد لغة التحدي
كلام السفير حسام زكي لا يقف عند حدود تفسير بيان، بل يقدّم خريطة للتعامل مع المرحلة المقبلة:
- تصريحات نتنياهو ليست مؤشراً على قوة بل علامة ضعف.
- الأمن الإقليمي لن يستقيم دون فلسطين.
- الموقف العربي الموحد قد لا يكون ملزماً، لكنه يملك القدرة على إعادة ضبط التوازن.
في النهاية، يمكن القول إن لغة التحدي الإسرائيلية التي استعرضها نتنياهو في الأيام الأخيرة لا تبدو قابلة للاستمرار. فهي، كما وصفها زكي، مأزومة بطبيعتها.
أما القمة، فقد وضعت بذرة موقف سياسي جديد: سقف مرتفع، مرونة في التطبيق، ورسالة واضحة أن أوهام "تجاوز فلسطين" لن تدوم.
إقرأ المزيد