بعد حرب غزة.. الشرق الأوسط أمام لحظة إعادة التشكّل
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

يراقب العالم باهتمام بالغ الخطوات الأولى لتطبيق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة، وهي خطة لا تبدو مجرد مبادرة سلام مؤقتة، بل نقطة تحوّل تؤذن بولادة نظام أمني جديد في الشرق الأوسط، سيكون له ما بعده على الصعيدين الإقليمي والدولي. فالمشهد الذي رافق توقيع الاتفاق، من تل أبيب إلى شرم الشيخ، يعكس حجم الرهان الأميركي والإسرائيلي على هندسة مرحلة سياسية وأمنية مختلفة جذرياً عن تلك التي أعقبت حروب العقود الماضية. القبول المبدئي من حركة «حماس» ببنود الخطة، وخاصة بند التخلي عن السلاح، لا يمكن فصله عن التحولات البنيوية التي أفرزتها الحرب.

فالحركة التي كانت تُمسك بزمام القرار في غزة منذ عام 2007، وجدت نفسها بعد «طوفان الأقصى» أمام واقع جديد: بيئة عربية ودولية لم تعُد تحتمل منطق الكيانات المسلحة، وقدرة مالية وعسكرية تآكلت بفعل الحصار والضربات الإسرائيلية. حتى محاولاتها للمراوغة في ملف السلاح تبدو أشبه بتكرار لتجربة «حزب الله» في لبنان، الذي لم يعُد يحتكم إلى قوة المقاومة بقدر ما يسعى إلى حماية موقعه السياسي الداخلي.

إنّ النظام الإقليمي الذي تشكّل بعد حرب تحرير الكويت وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وما تلاه من مؤتمر مدريد للسلام واتفاقيات أوسلو والطائف ووادي عربة، دخل اليوم مرحلة الأفول. فقد تآكلت ركائزه بعد حرب العراق عام 2003، وصعود إيران كقوة إقليمية عبر مشروع «محور الممانعة» الذي تمدّد من بغداد إلى بيروت مروراً بدمشق وغزة. وجاء الاتفاق النووي عام 2015 ليمنح طهران شرعية دولية، مكرساً اختلالاً عميقاً في التوازن الإقليمي.

غير أن زلزال السابع من أكتوبر 2023، وما أعقبه من حرب شاملة، قلب الطاولة على هذه المنظومة بأكملها. لقد فقدت إيران اليوم أحد أهم أعمدة نفوذها، مع سقوط نظام بشار الأسد وتقدّم سلطة الرئيس أحمد الشرع في دمشق، مما قطع الشريان الحيوي بين طهران و«حزب الله». كما أن الأخير، الذي كان يشكّل الذراع الأكثر فاعلية للمشروع الإيراني، استُنزف بشرياً وعسكرياً وفقد الكثير من قياداته وخبراته الميدانية. ومع انكفاء دوره في الجنوب والتزامه باتفاق وقف إطلاق النار، لم يعد الحزب سوى قوة سياسية مذهبية تحاول البقاء داخل المعادلة اللبنانية، لا خارجها.

في المقابل، تعمل واشنطن على إعادة رسم التوازنات عبر دمج إسرائيل في ترتيبات أمنية جديدة تمتد من المتوسط إلى الخليج، تقوم على مفهوم «السلام مقابل التنمية»، وليس فقط «السلام مقابل الأمن». وهذا ما عناه ترامب في خطابه أمام الكنيست عندما دعا إلى ترجمة الانتصارات العسكرية بإنجازات سياسية تُعيد إحياء روح الاتفاقيات الإبراهيمية، ولكن بنسخة محدَّثة تتضمّن إشراك دول عربية وإسلامية إضافية في المنظومة الجديدة. ومع ذلك، لم يخلُ الخطاب من رسائل تحذير، إذ لمح ترامب إلى احتمال خوض جولات صراع محدودة مع إيران و«حزب الله» لتثبيت معادلة الردع الجديدة، وأرسل رسالة مباشرة إلى الرئيس اللبناني جوزف عون داعياً إياه إلى استكمال مشروع سحب سلاح الحزب، مؤكّداً أن دعم واشنطن للجيش اللبناني مشروط بتحقيق هذا الهدف. كما وجّه نداءً إلى طهران للانخراط في النظام الإقليمي الوليد، في خطوة تعكس تحولاً في مقاربة واشنطن مقارنة بمؤتمر مدريد حين استُبعدت إيران تماماً من التسويات.

ما يجري اليوم ليس مجرد اتفاق لوقف النار في غزة، بل عملية إعادة هندسة شاملة للشرق الأوسط. فالتغيّر في سوريا سيجرّ تغييراً في لبنان، والواقع الفلسطيني الجديد سيعيد صياغة العلاقة بين السلطة وغزة، فيما ستجد الدول العربية نفسها أمام معادلة دقيقة: كيف تتعامل مع منظومة إقليمية ترعاها واشنطن، تشارك فيها إسرائيل، وتُمنح فيها إيران مقعداً مشروطاً؟

إنّ النظام الذي يتشكّل الآن يقوم على توازن المصالح لا توازن الشعارات، وعلى مبدأ «من يملك الاستقرار يملك الشرعية»، لذلك، فإن المستقبل القريب سيشهد سباقاً بين محورين: محورٍ يسعى للانخراط في هذا النظام لتحقيق مكاسب اقتصادية وأمنية، ومحورٍ آخر يقاومه إدراكاً بأن دخوله يعني نهاية مرحلة النفوذ الأيديولوجي. ويبقى السؤال الأهم: هل يستطيع الشرق الأوسط أن يخرج من هذه الحرب إلى نظام استقرار دائم، أم أنه يدخل مجدداً مرحلة جديدة من الحروب الصغيرة التي تُدار تحت عنوان «السلام القادم»؟

*لواء ركن طيار متقاعد.
     



إقرأ المزيد