جريدة الإتحاد - 10/18/2025 12:57:17 AM - GMT (+4 )

في مؤتمر عُقد مؤخراً في إسبانيا حول الاستقطاب، ذكّرت «أفِيلا كِلموري»، وهي شخصية رئيسة في عملية السلام في أيرلندا الشمالية، الحاضرين بأن «اتفاق الجمعة العظيمة» حصل على أكثر من 71% من الأصوات في استفتاء عام 1998. لكنها قالت: «لو أُجري التصويت اليوم، مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، لا أعتقد أنه كان سيُقرّ».
تسلّط ملاحظة كِلموري الضوء على جوهر المشكلات السياسية والثقافية والتعليمية التي أثارتها وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب التكنولوجيا الحديثة المتزايدة في حياتنا، وخاصة الذكاء الاصطناعي. هل يمكن أصلاً موازنة تكاليف وسائل التواصل الاجتماعي مع فوائدها؟
هل كان انتخاب دونالد ترامب رئيساً في عامي 2016 و2024 أحد تلك التكاليف؟ وهل صعود الشعبوية اليمينية في الولايات المتحدة وأوروبا - المصحوب بتراجع الديمقراطية في بلدان عديدة - تكلفة أخرى؟
على صعيد آخر لا يقل أهمية، هل عانى جيل من الشباب والشابات، وخاصةً النساء الليبراليات، من مستويات مرتفعة من الاكتئاب والقلق بسبب وسائل التواصل الاجتماعي؟
هل تضعف التقنيات الجديدة، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، قدرة الطلاب على التفكير العميق والمطوّل؟ وهل تفسّر تراجع معدلات القراءة؟
الواقع أن حساب الكلفة الحقيقية للسؤال الأول - هل يمكن موازنة كلفة وسائل التواصل الاجتماعي مع فوائدها؟ - مهمة مستحيلة، إذ لا عودة عن عالم يضمّ الذكاء الاصطناعي، وتيك توك، وفيسبوك، والإنترنت، والهواتف الذكية، وإنستجرام، فضلاً عن التقنيات التي لم نعرفها بعد.
كتب «فرانسيس فوكوياما»، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد: «من المستحيل ببساطة التراجع عن وسائل التواصل الاجتماعي».
لكن ما يمكن فعله هو تقدير الأضرار ومحاولة تقليلها.
وقال: «ريتشارد بيلدِس»، أستاذ القانون في جامعة نيويورك: «لطالما كانت الثورات التكنولوجية مزدوجة التأثير». وأوضح أن «تويتر وشبكات التلفزيون الخاصة، إلى جانب الاستخدام الحديث للانتخابات التمهيدية بدلاً من المؤتمرات السياسية، أدت جميعها دوراً مهماً في النجاح الانتخابي الأولي لدونالد ترامب».
وأضاف: «لا شك أن التقنيات الجديدة ساهمت بشكل كبير في تفتيت السياسة التي تهزّ جميع الديمقراطيات الغربية تقريباً. فهي توسّع المشاركة السياسية، لكنها تجعل الطعن في سياسات الحكومة سهلاً ومستمراً، ما يصعّب تحقيق حكم فعّال. وإذا فشلت الحكومات في الأداء، فسيتزايد الإحباط والغضب وانعدام الثقة».
وذهب بعض الباحثين إلى أبعد من ذلك في تحميل التكنولوجيا المسؤولية. في مقال نُشر في 2 أكتوبر في مجلة «بيرسوجن» بعنوان «إنه الإنترنت يا أحمق: ما الذي تسبب في موجة الشعبوية العالمية؟ ألقِ اللوم على الشاشات»، كتب فوكوياما، بعد قرابة عقد من دراسة أسباب صعود الشعبوية العالمية: «لقد توصلتُ إلى استنتاج مفاده أن التكنولوجيا عموماً، والإنترنت تحديداً، تُعدّ التفسيرات الأبرز لظهور الشعبوية العالمية في هذه الفترة التاريخية تحديداً، ولماذا اتخذت هذا الشكل المُحدد».
وأضاف فوكوياما أن ظهور الإنترنت يُمكن أن يُفسر توقيت صعود الشعبوية، بالإضافة إلى طابعها التآمري الغريب. في السياسة اليوم، لا يتنافس الجانبان «الجمهوري» و«الديمقراطي» في الاستقطاب الأميركي على القيم والسياسات فحسب، بل يتنافسان أيضاً على معلومات واقعية مثل من فاز في انتخابات عام 2020 أو ما إذا كانت اللقاحات آمنة.
يعيش الجانبان في فضاءات معلوماتية مختلفة تماماً؛ كلاهما يعتقد أنهما منخرطان في صراع وجودي من أجل الديمقراطية الأميركية، لأنهما يبدآن من حقائق مختلفة حول طبيعة التهديدات التي تواجه هذا النظام.
ورغم أن التكنولوجيا ركّزت القوة في أيدي المنصات الكبرى، إلا أنها فرّقت مصادر المعلومات، وقلّلت من جودة المحتوى.
يرى بعض الأكاديميين، مثل ماريا باباجورجيو من جامعة نيوكاسل البريطانية، أن التأثيرات مختلطة. وقالت إنها ترى في وسائل التواصل الاجتماعي «فوائد ومساوئ»، لكنها أشارت إلى أن المجتمع تأخّر في إدراك تأثيرها العميق على الاتصال والترفيه والخطاب السياسي، ولم يضع ضوابط مناسبة في الوقت المناسب.
وقد تباين تقييم «باباجورجيو» العام لدور التكنولوجيا في السياسة مع تقييم «فوكوياما»: لقد ضخّمت وسائل التواصل الاجتماعي القضايا المهمة، ووفّرت منصة للناس للتعبير عن مخاوفهم التي كان يتم تجاهلها. كما أتاحت للجمهور الردّ المباشر على سياسات الحكومة وانتقادها ومعارضتها. لقد غيّرت وسائل التواصل الاجتماعي النبرة السياسية بشكل كبير، إذ حوّلتها من أسلوب أكثر رسميةً ودبلوماسيةً إلى أسلوب أكثر مباشرة وعاطفية يهدف إلى الوصول إلى عامة الناس.
في ورقة بحثية نُشرت في يناير 2025 بعنوان «وسائل التواصل الاجتماعي، التضليل، والذكاء الاصطناعي: تغيير مشهد الحملات السياسية الرئاسية الأميركية لعام 2024»، كتبت «باباجورجيو» أنه في انتخابات 2024، أدت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في رصد المشاعر العامة وتتبع التفاعل الفوري من خلال مقاييس مثل الإعجابات وإعادة النشر والمتابعين.
وقال «دنكان واتس»، الأستاذ في قسم علوم الحاسوب والمعلومات بجامعة بنسلفانيا: «من المألوف حاليا التركيز على الآثار السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي، ولكن من الجدير بالذكر أنها قد تحمل أيضاً العديد من الآثار الإيجابية. فالتكنولوجيا نفسها التي تسمح لمنظري المؤامرة بالتشكيك في سلامة وفعالية اللقاحات، هي نفسها التي تسمح بانتشار قنوات علمية وتعليمية عالية الجودة».
والتكنولوجيا نفسها التي تسمح لمجموعات صغيرة من المتطرفين بالتواصل والتنسيق، هي نفسها التي تسمح لمجموعات صغيرة من الناجين من السرطان أو غيرهم ممن يعانون آلاماً مزمنة، أو اغتراباً اجتماعياً بتكوين مجموعات دعم تُحسّن حياتهم. والتكنولوجيا نفسها التي تُبعد بعض الناس عن العلاقات الاجتماعية الهادفة، هي نفسها التي تسمح لآخرين بتكوين علاقات اجتماعية هادفة - مع شركاء عاطفيين محتملين، أو مع جيران، أو مع أصدقاء قدامى ربما انقطعت صلتهم بهم لولا ذلك. في الوقت نفسه، يُجادل بعض المحللين بأن التكنولوجيا ليست بطبيعتها قوة سلبية في السياسة، وأنها تُتيح طرقاً جديدة لاستغلال العملية السياسية.
*كاتب أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
إقرأ المزيد