جبل التعافي
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

يُشفى الإنسان حين يشعر بأن معاناته مفهومة، وأن صوته يجد صدىً في وجدان آخرين، وقتها يفقد الألم بعض حدته، ويغدو فعل البوح ذاته خطوة نحو التعافي. صاغ تلك الفكرة الأدب قبل أن يصوغها الطب، إذ تنبّه أحدهم باكراً إلى أن المشاركة الشعورية تُرمم ما يعجز الدواء عن شفائه.
عندما كتب «توماس مان» رائعته «الجبل السحري»، أشار في مقدمة الطبعة الثانية إلى أن روايته «رحلة إلى الأعماق من خلال المرض، ومشاركة ألمه مع آخرين». اعتبرت الرواية تلك من روائع الأدب الألماني في القرن العشرين. أظهرت لحظة الهشاشة الكبرى التي يشهدها الإنسان أمام المرض والموت، لكنها أيضاً احتفت بقدرة الجماعة على احتواء الفرد في ضعفه. فالعُزلة في المصحّ الجبلي لم تكن انغلاقاً، بل انفتاحاً على النفس وعلى آخرين يعيشون الوهن ذاته، ويوحّدهم المرض.
استلهم «مان» عالمه في الرواية من تجربة المصحّات التي انتشرت في أوروبا آنذاك، خصوصاً مصحة «غوربيرسدورف» لعلاج السل، التي أحدثت ثورة في مفهوم العلاج. كان السلّ الرئوي مرضاً قاتلاً، لكن الطبيب الألماني «هيرمان بريمر» -الذي تعافى بنفسه من المرض بعد رحلة علاجية في جبال الهيمالايا- لاحظ أن الهواء النقي والارتفاع والسكينة عناصر تساعد الجسد على المقاومة. وحين عاد إلى أوروبا وافتتح مصحّته، اعتمد على هذه العناصر الطبيعية. غير أنه اكتشف أمراً أعمق من أثر الطبيعة، فكما دوّن في ملاحظاته الطبية، أن المرضى الذين يتفاعلون ويتحدثون معاً يتعافون أسرع من أولئك الذين ينعزلون. ومع مرور السنوات، بات مقتنعاً بأن الروح الجماعية جزء من العلاج نفسه، فكتب بين عامي 1866 - 1875: «إن قوة الإرادة، والأمل المتجدد، وتبادل الخبرات اليومية بين المرضى، تؤدي إلى استعادة الحيوية كما يفعل الهواء الجبلي نفسه». لقد صنعت المعاناة المشتركة بين الذين يعانون وعياً مشتركاً، والوعي صنع التعافي.
من رحم هذه الفكرة ولدت غُرف تعافي مدمني الكحول المجهولين عام 1935، التي تُعد واحدة من أكثر التجارب الإنسانية تأثيراً في التعافي. لم تكن تلك الغرف مجرد مكان لتشجيع من فيها للإقلاع عن الإدمان، بل كانت فرصة لإعادة اكتشاف من فيها القوة الكامنة في تجربتهم المشتركة. كما حدث لاحقاً في غرف مجموعات مماثلة لمدمني المخدرات، ومصابي الأمراض المزمنة، لمرضى السرطان، وللمفجوعين، ولمن يعيشون اضطرابات القلق والاكتئاب.
هكذا صعدوا في هذه الغرف إلى قمة الجبل، حيث تجرؤوا على مشاركة ضعفهم مع من يشبهونهم. ورغم صغر مساحة هذه الغرف فإنها كانت فضاء واسعاً خالياً تماماً من الأحكام. فضاء لا يحتاجون فيه إلى متخصصين، بل إلى آخرين، يتبادلون معهم الخبرات والأمل، ويشجعون بعضهم على الاستمرار.



إقرأ المزيد