في ذكرى «نوسترا إيتاتي»
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

حتى عام 1965 كانت المسيحية تعني الكاثوليكية وكانت الكاثوليكية تعني الدين، مع ألِف التعريف. لكن جاء من قلب أوروبا رجلٌ اسمه أنجيلو رونكالي، ذاق ويلات الحرب العالمية الأولى ولجأ بعد الحرب إلى الكنيسة الأم. ومن خلال عمله في السلك الدبلوماسي للفاتيكان تعرّف على الأرثوذكسية في اليونان واكتشف أنها مسيحية، وتعرّف على الإسلام في تركيا واكتشف أنه رسالة سماوية. وعندما أصبح بابا في عام 1958 اتخذ لنفسه اسمَ يوحنا 23، وكان أول بابا يزور المؤسسات الأهلية: مستشفيات وجامعات وجمعيات خيرية. وكان أول عمل مهم قام به هو دعوة 2800 شخصية دينية علمية من 16 دولة للبحث في علاقات الكنيسة ومواقفها من الآخر. كان ذلك في عام 1962.
وهكذا انعقد المجمّع الفاتيكاني الثاني، ولكن البابا يوحنا 23 تُوفي قبل أن تكتمل أعمال المجمع. خَلَفَه البابا بولس السادس الذي حرص على التوقف في لبنان وهو في طريقه للحج إلى القدس. صدرت عن هذا المجمع في عام 1965 وثيقة غيّرت صورةَ المسيحية، وغيّرت جوهر وأسس علاقاتها مع الآخر، وخاصة مع الإسلام.
لم تعد الكاثوليكية تعني المسيحية حصراً، حيث أقرّت الكنيسةُ الأخوّةَ الإيمانيةَ مع الأرثوذكسية ومع الإنجيلية. ولم تعد المسيحيةُ تعني طريق الخلاص الوحيد إلى الله تعالى، بل أقرّت الكنيسة الإسلامَ رسالةً من عند الله، وحصرت مسؤولية الصُّلب بمرتكبي ذلك الفعل حصراً وليس بجميع أبناء الديانة اليهودية حتى قيام الساعة.
انفتحت الكنيسة كذلك عبر المجمع على أصحاب العقائد الأخرى في العالم، وعلى الإسلام تحديداً.. وهو موقف أرسى القاعدة الإيمانية التالية: «تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد، الحيّ القيّوم، الرحمن القدير، الذي خلق السماء والأرض وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، وإنْ خُفيت مقاصده. كما سلّم لله إبراهيم الذي يفتخر الدين الإسلامي بالانتساب إليه. وهم يكرِّمون يسوع نبيّاً ويكرّمون أمَّه العذراء مريم، مبتهلين إليها أحياناً بالإيمان. ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يجازي الله فيه جميعَ الناس بعد أن يبعثهم، من أجل هذا يقدّرون الحياةَ الأبدية ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم خصوصاً». لم يخترع المجمّع الفاتيكاني الثاني في وثيقة «نوسترا إيتاتي» مسيحيةً جديدةً، ولكنه دعا إلى العودة إلى الأصول الإيمانية للمسيحية مجدِّداً الالتزامَ بالقيم الروحية التي تدعو إلى المحبة والفداء وإلى التضحية في سبيل الآخر.
ولقد رأينا كيف عمل الباباوات الذين تعاقبوا على كرسي البابوية: بولس السادس ويوحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر وفرنسيس، والآن البابا ليو الرابع عشر، على ترجمة مقررات المجمع، فقدموا بذلك نماذج يُحتذى بها.
وبعد موجة التطرّف الديني الإلغائي للآخر التي اجتاحت بعض دولنا العربية، والتي انتهكت حرمة الإسلام شِرعةً ومنهاجاً، بادرت المرجعيات الدينية الإسلامية إلى التصدي لتلك الموجة بشجاعة المؤمِن الواثق.
فكانت مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي في مكة. ومؤتمرات الأزهر الشريف في القاهرة. ومؤتمرات مؤسسة آل البيت في عمّان. ومؤتمرات منتدى أبوظبي للسِّلم في أبوظبي ومراكش، وكان مؤتمر المقاصد الإسلامية في بيروت.
وقد تلاقت مقررات هذه المؤتمرات الفقهية على قواعد إيمانية تقول بالمساواة في المواطنة وتسقِط مقولةَ الأكثرية والأقلية، وترفع لواءَ الحقوق المتساوية، وتغيّر شعارَ التسامح بما يعنيه من فوقية المتسامِح تجاه المتسامَح معه، وبالحريات وعلى رأسها الحرية الدينية.
 ويمكن وصف أعمال هذه المجامع الفقهية الإسلامية بأنها «نوسترا إيتاتي» إسلامية، تتلاقى وتتماهى مع «نوسترا إيتاتي» الفاتيكانية التي تحتفل بالذكرى الستين لصدورها، وهو تلاقٍ وتماهٍ في الهدف الإنساني البعيد الذي كرّسته وثيقة الأخوة الإنسانية بين البابا فرنسيس والإمام الدكتور أحمد الطيّب في أبوظبي (2019)، والتي تحوّلت إلى ملتقى للإيمان بالله الواحد الأحد.


*كاتب لبناني



إقرأ المزيد