جريدة الإتحاد - 11/25/2025 11:17:40 PM - GMT (+4 )
على مدى أربعةٍ وخمسين عاماً تحولت دولة الإمارات العربية المتحدة من كيانٍ وليدٍ إلى قوةٍ إقليمية يُشار إليها بالبنان؛ فالاحتفال بمرور هذه العقود ليس مناسبةً وطنية فحسب؛ بل شهادة حية على مسيرةٍ من البناء والتمكين صاغت ملامحها القيادة الرشيدة بإصرارٍ ورؤيةٍ بعيدة المدى؛ فجعلت من الاتحاد مشروعاً وطنياً متجدِّداً يتسع لكل مرحلة من مراحل التطور.
وقد جسد الاتحاد، منذ انطلاقه، نموذجاً فريداً في وحدة الإرادة الوطنية، وتكامل عناصر القوة الشاملة. وعلى هذا الأساس انتقلت الدولة من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التأثير؛ لتغدو اليوم نموذجاً في التنمية والتقدُّم يُحتذى به في المنطقة، ودولةً تملك أدوات الحضورَين الإقليمي والدولي؛ وتسهم بفاعلية في تعزيز الاستقرار والسلام على المستويين الإقليمي والدولي.
وبرزت دولة الإمارات، في العقدين الأخيرين، قوةً متوسطة قادرة على التكيُّف مع نظامٍ عالميٍّ منقسم؛ فاعتمدت على استراتيجياتٍ مرنة تمزج بين الحياد الفاعل، والانخراط المتوازن في الشؤون الدولية؛ مرتكزةً على سياسة خارجية براجماتية تُعلي المصالح المشتركة؛ وتتجنب الاستقطاب الأيديولوجي.
وقد تجسد هذا النهج في شبكة شراكاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع الهند وكوريا الجنوبية وروسيا والصين، وغيرها من القوى الصاعدة والكبرى؛ فضلاً عن انضمامها إلى تكتل «بريكس»، بصفته أحد أبرز مظاهر التحول نحو تعددية الأقطاب الاقتصادية. كما حافظت الدولة على انسجام سياساتها الخارجية مع متطلبات أمنها الوطني، ودورها في دعم مبادرات السلام الإقليمي؛ معزِّزةً حضورها صوتاً معتدلاً فاعلاً في تسوية النزاعات، وتعزيز الاستقرار. وقد تجسد هذا الدور في استضافتها مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للمناخ «كوب28»، ومشاركتها في جهود الوساطة الإنسانية في الأزمات الدولية؛ الأمر الذي رسخ صورتها فاعلاً مسؤولاً يوازن بين مصالحه الوطنية، ومقتضيات الأمن الجماعي.
وتتجلى مكانة الدولة كذلك في قدرتها على تحقيق توازنٍ مدروس بين قوتيها الناعمة والصلبة؛ إذ جمعت بين الدبلوماسية الهادئة، والسياسات الهادفة إلى تعزيز التنمية الإنسانية والاقتصادية، واستثمرت في التعليم والابتكار والتكنولوجيا بصفتها أدواتٍ للتفوق الاستراتيجي، وتعزيز الأمن الوطني؛ وأسهم هذا النهج المتكامل في ترسيخ صورة دولة الإمارات دولةً تجمع بين القوة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية؛ وتقدِّم نموذجاً عصرياً لفهم النفوذ في القرن الحادي والعشرين؛ نفوذٍ يقوم على التأثير والإلهام أكثر مما يقوم على الإملاء أو الهيمنة؛ وقد انعكس هذا الدور الإيجابي في التقديرات الدولية؛ إذ احتلت الدولة موقعاً متقدِّماً ضمن المرتبة العاشرة عالمياً في مؤشر القوة الناعمة لعام 2024؛ بفضل حضورها الإنساني والثقافي والتنموي الفاعل في أكثر من مئة دولة؛ ما رسخ مكانتها قوةً إيجابيةً تنشر الاستقرار، وتدعم فرص التعاون والسلام والتنمية في العالم.
وفي هذا الإطار شكلت «مبادئ الخمسين» امتداداً طبيعياً لمسيرة الدولة واستشرافها للمستقبل؛ إذ أكدت ترسيخ الاتحاد، وبناء الاقتصاد الأفضل عالمياً، والاستثمار في الإنسان بصفته الثروة الوطنية الأولى، وتبنِّي سياسة خارجية متزنة تستند إلى قيم السلام والانفتاح الإنساني؛ وقد نجحت دولة الإمارات في تحويل هذه المبادئ إلى ممارساتٍ عملية عززت مكانتها العالمية، ورسخت نموذجها في تحقيق التوازن بين الأمن والتنمية، وبين السيادة والانفتاح.
ويمثل ذلك كله امتداداً لرؤية القائد المؤسس، المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيب الله ثراه- الذي وضع الأساس لدولةٍ تؤمن بأن التقدم والازدهار ثمرة رؤية استراتيجية وحكمة قيادية استثنائية. وفي الذكرى الرابعة والخمسين للاتحاد تتجدد روح الفخر الوطني، ويترسخ الإيمان بأن دولة الإمارات ماضية بثقة نحو مستقبلٍ أكثر ازدهاراً وريادةً؛ محافظةً على رسالتها في بناء نموذجٍ إنسانيٍ رائدٍ في عالمٍ تتزايد فيه الانقسامات والتحولات.
د. محمد عيسى النوبي
موجِّه باحث في كلية الدفاع الوطني.
إقرأ المزيد


