عام الأسرة: كيف نحول هواتفنا إلى جسور لا جدران؟
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

أصبح التلاحم الأسري والمجتمعي اليوم واحداً من المؤشرات البارزة، التي تتنافس فيها الدول لبناء القوة الناعمة، وتحقيق الاستقرار المستدام، فقوة الدول لم تَعد تُقاس بما تملكه من بنية تحتية، أو موارد طبيعية فحسب، بل بقدرتها أيضاً على صون نسيجها الاجتماعي في وجه التغيرات المتسارعة، ولذلك فإن الدول الأكثر استقراراً هي التي تجعل الأسرة خط الدفاع الأول عن تماسكها، إدراكاً منها أن كل جهد يُبذل في تعزيز استقرار الأسرة يعود أضعافاً مضاعفة على أمن المجتمع ومستقبله.
وفي جوهر هذا التحدي يبرز التحول الرقمي بصفته أكبر معضلة تواجه أسرنا اليوم، فالهاتف المحمول الذي يلازم أطفالنا، والجهاز اللوحي الذي يرافقهم دائماً، تحولا إلى ساحة جديدة تتشكّل فيها هوياتهم وعلاقاتهم. ولم يعُد السؤال الأكثر إلحاحاً هنا هو: هل نمنعهم من استخدام التكنولوجيا؟ بل هو: كيف نربيهم على استخدامها بحكمة؟
ولعل الفرصة الأثمن تلوح أمامنا اليوم، فقد وجَّه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بتخصيص عام 2026 ليكون «عام الأسرة»، والاستثمار فيه كفيل بتحويل هذا التحدي إلى فرصة وطنية. 
وعندها فقط ينتقل الحديث عن «المواطنة الرقمية» من كونه مصطلحاً نظرياً في أروقة الجامعات والمؤتمرات والمنتديات، إلى ممارسة حيَّة داخل كل بيت إماراتي، ويتحوّل الوعي الرقمي إلى قوة ناعمة، وهي القوة التي استثمرتها دول مثل فنلندا وسنغافورة، واستطاعت من خلالها بناء مجتمعات رقمية متقدمة ومتلاحمة في آن واحد، لا بفرض الرقابة، وإنما بغرس الوعي والحكمة في الاستخدام منذ الصغر. 
ولتحقيق هذا التحول علينا الانتقال من عقلية «الخوف من الشاشة» إلى «الحوار حول الشاشة»، وبرغم أن ثقافة الحديث الأسري المفتوح عن العالم الرقمي لا تزال جديدة نسبيّاً، فإن العالم يمضي في هذا الاتجاه بسرعة كبيرة.
والخلاصة أن التكنولوجيا تظل أداة محايدة، ولكن طريقة استخدامنا لها هي التي تحدد الأثر في حياتنا الأسرية والمجتمعية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إطار عمل وطني يكون بمنزلة جسر يربط بين عالم التكنولوجيا، وقيمنا الأسرية الأصيلة. ويمكن بلورة هذا الإطار في «الميثاق الوطني للتلاحم الرقمي» الذي يمكن أن يرتكز على أدوات عملية ومبتكرة.

ويعمل هذا الميثاق المقترح على حماية الأسرة عبر تمكينها، لا عزلها، ويهدف إلى إطلاق المؤشر الوطني للتلاحم الرقمي، الذي لا يكتفي بقياس عدد ساعات استخدام الإنترنت فقط، بل يركّز على جودة هذا الاستخدام، وأثره في العلاقات والتواصل. كما يمكن لهذا الميثاق أن يزوّد الوالدين بأدوات عملية مثل «العقد الأسري الرقمي»، ويشجع على مبادرات مجتمعية مبتكرة مثل «جسور رقمية بين الأجيال»، ليتحول الفضاء الرقمي من جدار للعزلة إلى جسر للتواصل.
إن مستقبل الدول لن يُصنع بالبنية التحتية الرقمية فقط، بل بالبنية الاجتماعية القادرة على استخدام هذه البنية التحتية بحكمة. والأسرة ليست مجرد مجموعة أفراد يعيشون تحت سقف واحد، إنها المصنع الأول لقوة ناعمة تبني مجتمعاً متلاحماً، وترفع سمعة وطن، وتصنع مستقبلاً يليق بأبنائه.
*باحث رئيسي اجتماعي في قطاع التشريع والرقابة بالأمانة العامة للمجلس الوطني الاتحادي. 



إقرأ المزيد