مَن يخاطب السودان.. الدولة أم الأيديولوجيا؟
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

في المشهد السوداني الراهن تتقاطع طبقات الصراع العسكري مع طبقاتٍ أعمق من التوظيف الأيديولوجي للدين، فتتحوّل الأزمة من نزاعٍ على السلطة إلى اختبارٍ مريرٍ لمدى قدرة الدولة على حماية نفسها من الاستقطاب، الذي يصنعه خطابٌ دينيٌّ مُسيَّس، يرتدي قناعَ الدفاع عن الهوية، وهو في جوهره صراع على الهيمنة. والسودان اليوم لا يعيش حرباً واحدة، إنه يعيش حرباً على المعنى قبل أن تكون حرباً على الأرض.

فالقوى المتصارعة لا تتصارع فقط على الخرطوم أو دارفور، بل تتصارع على تعريف مَن هو السودان؟ ومَن له الحق في احتكار الحديث باسمه؟وفي هذا السياق، تعود أهمّ مشكلات التجربة السودانية إلى أنّ الدين لم يُستثمر كجسرٍ جامع، بل غالباً ما استُخدم كأداة فرزٍ واستدعاءٍ رمزيّ لإنتاج «الأنا المُخلَّصة» و«الآخر المُقصى». الخطاب الذي تقدّمه جماعات التوظيف السياسي للإسلام لا ينطلق من رؤية إصلاحية، بل من رغبة في إعادة تشكيل المجال السياسي والأخلاقي وفق سرديات تاريخية جامدة تفتقر إلى قراءة الواقع المعقّد. لذا تُعاد صياغة الحرب باعتبارها معركة بين «مشروعين»، بينما الحقيقة أنها صراع بين قوى فشلت في بناء الدولة الحديثة، ثم وجد كل طرف في الهوية الدينية موضعاً مناسباً لتعويض غياب الشرعية السياسية.
ومع اشتداد الصراع العسكري، تنشط المنابر الإعلامية التي تتبنّى خطاباً يحمّل الخارج وزر المأساة، فتخلق روايات جاهزة تُعفي الداخل من مسؤوليته التاريخية. وتتحوّل كل دولة ذات حضور في الإقليم إلى مرمى للتأويلات، وكل مبادرة إنسانية أو دبلوماسية إلى مادة تُقرأ بمنظار الشكّ. هذا النمط ليس جديداً في التجارب التي تتداخل فيها الهشاشة السياسية مع المدّ الأيديولوجي، إذ تميل الجماعات إلى توسيع دائرة الاتهام، كلما تقلّصت قدرتها على إنتاج حلول واقعية. وهكذا يصبح الخارج شماعةً تُعلَّق عليها تناقضات الداخل، وتتحوّل أي دولة تعمل بمنهج عقلاني، بعيداً عن الاصطفافات، إلى مادة للتأويل السياسي، لا لشيء إلا لأنها لا تنخرط في الخطاب العقائدي الذي اعتادته هذه الجماعات.
 وفي ظل هذا الضجيج تتلاشى حقائق أساسية: أنّ السودان في جوهر أزمته يحتاج إلى خطاب يداوي لا إلى خطاب يعبّئ، وأن مستقبل الدول لا يُبنى بمراكمة السرديات الأيديولوجية، بل باستعادة الثقة بين المكوّنات الوطنية، وبفصل الدين عن الإملاء السياسي الذي حوّله إلى طاقة صراع بدل أن يكون طاقة إحياء. ما يحدث اليوم هو إعادة تدوير لأخطاء ماضية، حيث يُصوَّر كل مشروع سياسي وكأنه التعبير الأوحد عن روح الأمة، بينما معظم السودانيين يبحثون ببساطة عن السلام، وعن دولةٍ تحفظ كرامتَهم، ولا تطلب منهم الاصطفاف خلف جماعة كي يضمنوا حقّهم في الحياة. إن المشكلة ليست في الدين بوصفه قيماً أو تراثاً، بل في تحويله إلى أداة لإنتاج الاصطفاف والاستقطاب. حين تُستدعى الآيات والشعارات لتبرير الحرب أو شيطنة الخصوم أو صناعة العدو الخارجي، يصبح الدين وقوداً للمعركة بدل أن يكون إطاراً للمصالحة.

وحين تُستخدم المخيلة الدينية لتصنيف الداخل والخارج، يُفقد الصراع بوصلته ويبتعد عن أهدافه الإنسانية، ويغدو شبح الانهيار الشامل أكثر تهديداً من أي مكسب ميداني مؤقت.
 وأمام هذا المشهد يحتاج السودان إلى مقاربة هادئة، تتجاوز ثنائية الاتهام والدفاع، وتنظر إلى الواقع كما هو: بلدٌ ممزق يحتاج إلى إعادة بناء مؤسساته، وإلى تحييد الدين عن ساحات الاحتراب، وإلى دعم دولي لا يقوم على الشعارات بل على احترام وحدة الوطن وتخفيف الكارثة الإنسانية. وطنٌ يحتاج إلى شركاء يتعاملون معه باعتباره دولة لا ساحة نفوذ، وباعتبار شعبه بشراً لا أدوات رمزية في صراع إقليمي أو عقائدي.
 حين يُعاد ترتيب الأولويات بهذه الطريقة، يتضح أنّ المعركة الحقيقية ليست حول «مَن يقف مع من»، بل حول كيفية جعل السودان يتجاوز لحظة الانهيار. والمرافعة الحقيقية ليست للدول، بل للسودان نفسه: لحقّه في سلامٍ خالٍ من الاستثمار الأيديولوجي، وفي دولةٍ لا تُختطف باسم الهُوية، وفي مستقبلٍ لا تُصاغ ملامحه في غرف العقائديين، بل في فضاءٍ سياسيٍّ وطنيٍّ يعيد الإنسان إلى مركز المعادلة. هذا النوع من المقاربة هو القادر وحده على تجاوز ضجيج الاتهامات، وصوت الأيديولوجيات التي تحوّل المأزق إلى مادة تعبئة. وهو أيضاً ما تحتاجه المنطقة اليوم: رؤية هادئة، لا تقف ضد أحد، ولكنها تقف مع منطق الدولة الوطنية الحديثة.


*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة.



إقرأ المزيد