صُلح الحَسن ومعاوية.. التاريخ الماثل
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

ما تقع واقعةٌ في السّياسيةِ والاجتماعِ إلا واستدعي التّاريخُ لمماثلتها. نعم، زعماء الغرب يستدعون الماضي الغابر، لكنْ لا يزيد على تَزويق الخطابات، أما في مجتمعاتنا فيستدعى بحذافيره وشخوصه. يظهر الأوائل في النّزاعات الدّينيّة الطَّائفيَّة قادة للجماعات اليوم، إنه إحياء للماضي. ففي الحرب العراقيّة الإيرانيَّة (1980-1988) ظهر سعد بن أبي وقاص (ت: 55 هج) راكباً حصانه يقود المعركة، فأُحييت القادسيّة مِن جديد، وكأنها لم تقع (15 هج)، وفي الحرب الطّائفيّة حضر المختار الثّقفي (قُتل: 67هج) رمزاً للانتقام، واستعد المعتقدون بالمهدي المنتظر لظهوره، فظهر أكثر مِن مدعٍ، وسميت الفصائل المسلحة بأسماء الصّحابة وكناهم، فتصرفت هذه المجاميع بما نقل لهم التّاريخ، لا تمييز بين زمان وآخر، فما إن تقع واقعة إلا ولها نموذج غابر، يحضر ويهيمن.
فلا عجب مِن استدعاء واقعة «صلح الحسن ومعاوية» (41 هج)، لتضفي التّاريخ على المحادثات الإيرانيّة الأميركيَّة، فمَن يريد تبريرها وشرعنتها، لجأ إلى مثال «صلح الحسن»، وقد بويع بالخلافة بعد مقتل والده عليّ بن أبي طالب (40 هج)، وكان «عليّ يُدعى بالعراق أمير المؤمنين، وكان معاوية بالشَّام الأمير، وبعد قتل عليّ صار يُدعى معاوية بأمير المؤمنين» (الطّبريّ، تاريخ الرُّسل والملوك)، وذلك قبل الصّلح بينه وبين الحَسن، الصُلح الذي يمتدح عند السّنّة والشّيعة، مع اختلاف التَّبرير.
دعم رجال السُّنة الصّلح بحديث: «إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، ولعلَّ اللهَ أَنْ يُصلِحَ به بين فئتَينِ عظيمَتين منَ المُسلِمين» (البخاري، الصَّحيح، باب الصُّلح)، رواه أبو بكرة الثّقفي (ت: هج)، أما رجال الشّيعة فمنهم مَن اعتبر الصّلح اضطراراً، لغاية مؤقتة، واختصره ابن واضح اليعقوبيّ (ت: 292 هج)، قائلاً: «قَدم معاوية العِراق، فغلب على الأمر، والحسن عليل شديد العِلة، فلما رأى الحَسن أنّ لا قوة به، وأنَّ أصحابه قد افترقوا عنه، فلم يقوموا له، صالح معاوية، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها النَّاس، إنَّ اللهَ هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمتُ معاوية، وإن أدري لعله فتنة لكم، ومتاع إلى حين» (تاريخ اليعقوبيّ)، لم يذكر الحديث، ولا المؤرخ ابن جرير الطّبريّ (ت: 310 هج) ذكره، لكن مِن المؤرخين الكبار ذَكره أحمد البّلاذريّ (ت: 279 هج) «في جُمل أنساب مِن الأشراف».  
صُنفت كُتب عديدة في «صلح الحسن»: «صلح الحسن ومعاوية» لأحمد بن محمَّد الهمدانيّ (ت: 333 هج)، و«صلح الحَسن» لعبدالرَّحمن بن كثير الهاشميّ، وربّما أقدمها كتاب «قيام الحَسن» لإبراهيم بن محمّد الثَّقفيّ (ت: 207 هج)، أورد عناوين هذه الكتب الشّيخ راضي آل ياسين (ت: 1953)، في كتابه «صِلح الحَسن»، الذي ترجمه آية الله عليّ خامنئيّ إلى الفارسيّة، ولخامنئيّ كتاب بهذا العنوان «صلح الحسن» (1972) أصله محاضرتان، وتُرجم إلى العربيّة.
أثير «صلح الحسن» في محادثة بين محسن الحكيم (ت: 1970)، والخميني (ت: 1989) بالنَّجف (1965)، العام الذي وصل فيه الخمينيّ العراق، أراد الخميني من الحكيم الإفتاء لصالح الثَّائرين بإيران، ويتدخل بالسَّياسة كمثال الحُسين بن عليّ (قُتل:61 هج)، أجابه الحكيم: «وماذا تقولون عن الإمام الحسن، إنه لم ينهض» (التَّفاصيل في كتابنا 100 عام مِن الإسلام السّياسيّ بالعراق/ الجزء الثاني). كذلك أثيرت الواقعة «صلح الحسن» خلال الحرب العراقيّة الإيرانيَّة عند السَّعي لوقفها.
يتداول اليوم «صلح الحسن»، ومَن يسميه «صلح الحسن ومعاوية»، و«عام الجماعة»، وقد اتفقت المذاهب بصحة ما وقع، واختلفوا بالتبرير، وما أسفر عنه مِن نتائج.
الشّاهد، أن التّاريخ ما زال قابعاً في وقائع الحاضر، لم يُغادر الذّهنيّة المحكومة بخطاب الماضي، وكأنَّ الزَّمن توقف عن الجريان، والقديم لا يحضر تاريخاً، بل انفعالاً، لذا قيل لكلّ نازلةٍ وقتها: «قل لمَن لا يرى المُعاصرَ شيئاً/ ويرى للأوائل التّقديما/ إنَّ ذلك القديم كان حديثاً/ وسيغدو هذا الحَديث قديما»(الحُر العامليّ، أمل الآمل). إنه الماضي الذي لم نغادره ولن يغادرنا، ما زال للسياسة مصلحة فيه.
*كاتب عراقي 
 



إقرأ المزيد