جريدة الإتحاد - 9/17/2025 12:30:12 AM - GMT (+4 )

أرسلت مجموعة تُمثل أكثر من 300 من قدامى المحاربين في الدبلوماسية الأميركية والاستخبارات والأمن القومي رسالة موجهة إلى قادة لجنتي الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب، وتبدأ بعبارة «نقترح بكل احترام....». للحظة عابرة، ظننتُ أنني أقرأ هجاءً على غرار «اقتراح متواضع». لكن سرعان ما أدركتُ أن هذا الطلب جادٌّ للغاية، ويعكس ما كنتُ أنا وغيري من مراقبي السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب قلقين بشأنه منذ شهور.تطلب الرسالة من الكونجرس المطالبة بتقييم استخباراتي سري يجيب عن أسئلة مثل: هل مازال حلفاء أميركا يعتقدون أن الولايات المتحدة ديمقراطية مستقرة؟ هل يعتبرونها شريكاً موثوقاً؟ هل يسعون إلى تأمين أنفسهم من خلال بناء تحالفات بديلة دون الولايات المتحدة؟ وحتى: هل يضعون خططاً طارئة لحروب «قد يضطرون فيها، لأول مرة منذ أجيال، إلى القتال ضد القوات الأميركية إذا ما اصطفّت أميركا إلى جانب روسيا ضد الناتو أو أوكرانيا، على سبيل المثال»؟ خذ وقتك للتفكير. بالطبع، احتمال صدور مثل هذا التقييم الاستخباراتي ضئيل.
فاللجان المعنيّة، مثل الكونجرس ككل، يسيطر عليها الجمهوريون الخاضعون لترامب. وكذلك هو الحال مع ما يُسمى «مجتمع الاستخبارات»، الذي يخضع حالياً لمحاولة من إدارة ترامب لتطهير صفوفه من كل من يُعتبر خائناً، حتى لو أدى ذلك إلى فقدان خبرات حيوية. لكن المخاوف قائمة، وتتزايد إلحاحاً مع كل دورة إخبارية. لنأخذ الطائرات المسيرة العسكرية التي أرسلتها روسيا للتو إلى بولندا، حيث أسقطتها طائرات الناتو. يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان يختبر دفاعات الناتو الجوية وإجراءاته في التعامل مع الأزمات، وحزمه، وهو يشعر بثقة متزايدة -خاصة بعد قمة ألاسكا- بأن ترامب متردد بشأن التزام الناتو بالدفاع المشترك، بقدر ما هو متساهل مع «صديقه» في الكرملين.
أو انظر إلى القصف الإسرائيلي لقطر بهدف اغتيال قادة «حماس». كل من إسرائيل وقطر تُعتبران، بالنسبة للولايات المتحدة، بلغة المصطلحات «حليفين رئيسيين من خارج الناتو»، وقطر تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة، كل ذلك بدا بلا معنى، إذ تجاهل رئيس الوزراء الإسرائيلي ترامب مرة أخرى، الذي إما لا يستطيع أو لا يريد حماية سيادة حلفائه القطريين، واضطر إلى التذمر من أن الضربات جعلته «غاضباً للغاية». إذا كانت حادثة بولندا تسلّط الضوء على تقلُب ترامب داخل الناتو، وحادثة قطر تبرز ضعفه أمام بنيامين نتنياهو، فإن أفعال أميركا في جرينلاند تشير إلى نوايا عدائية صريحة. فتلك المنطقة شبه المستقلة تتبع الدنمارك، إحدى أقدم وأقوى حلفاء أميركا.
ومع ذلك، يواصل ترامب الحديث عن السيطرة على جرينلاند. وتتواصل القائمة الطويلة من الأصدقاء والحلفاء الذين تمت الإساءة لهم: يريد ترامب ضم كندا، التي تشارك الولايات المتحدة أطول حدود غير محمية في العالم، والتي ترى الآن أن واشنطن من أكبر التهديدات لها. وقد حجب مدير استخبارات ترامب معلومات عن روسيا عن تحالف «العيون الخمس»، وهو تحالف لتبادل المعلومات الاستخباراتية بين بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا والولايات المتحدة، ويُعد من أعمق وأوثق التحالفات الأميركية (وقد أنقذ أرواحاً أميركية عديدة عبر إحباط مخططات إرهابية). يُلقي ترامب بظلال من الشك على تحالف «أوكوس» - التحالف الناشئ بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا - وعلى التحالف الرباعي، وهو شراكة بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند كان من المفترض أن تزدهر لتتحول إلى تحالف يوماً ما. من تايوان والفلبين إلى إستونيا وألمانيا، لا يمكن لأي حليف أميركي أن يضمن أن واشنطن، في أوقات الضيق، ستدعمه. يقول «جراهام أليسون»، الأستاذ بجامعة هارفارد، إن ضغط ترامب على التحالفات الأميركية يُلحق الضرر بنفسه لدرجة أنه «يُربكنا».
لقد استطاعت الولايات المتحدة، من خلال تعميق وتوسيع تحالفاتها بعد الحرب العالمية الثانية، ردع حرب عالمية أخرى لثمانية عقود، والحد من عدد القوى النووية إلى تسع فقط حتى الآن، وهي درجة من الاستقرار الجيوسياسي يراها أليسون «غير طبيعية» بالمعايير التاريخية.
ولنفترض جدلاً أننا تجاهلنا مفاهيم مثل المصداقية والقيم، وفكرنا فقط بمنطق الواقعية السياسية والمواجهة المرتقبة مع الصين الشيوعية. حتى - وخاصة في هذه الحالة، تبدو سياسة ترامب الفعلية القائمة على إزعاج الحلفاء غير منطقية. يشير «كيرت كامبل» و«راش دوشي»، وهما من كبار خبراء الشؤون الخارجية في إدارة جو بايدن، إلى أن الصين تتفوق بالفعل على الولايات المتحدة في العديد من مؤشرات الحرب المهمة، من السفن والمصانع إلى براءات الاختراع وعدد السكان. لكن لو تعاونت الولايات المتحدة أكثر مع حلفائها، فإن قوتهم الاقتصادية والعسكرية المشتركة -ما يسميه كامبل ودوشي «مقياس الحلفاء»- ستفوق بكثير قوة الصين.
لكن بالوتيرة الحالية، سيبقى «مقياس الحلفاء» مجرد حلم بعيد المنال. إذ يتفاعل حلفاء الولايات المتحدة كما تتوقع «نظرية توازن التهديدات» في العلاقات الدولية: إنهم يشكّلون شبكات تجارية وأمنية أخرى، مستبعدين الولايات المتحدة، كوسيلة للتحوط ضد عداء ترامب أو أي رئيس مستقبلي. الأوروبيون -رغم انقسام اتحادهم الشهير- يتقاربون أكثر فيما بينهم. المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا يوقعون معاهدات دفاع احتياطية تحسباً لانهيار الناتو. جميعهم يتحدثون عن كيفية تعديل مواقفهم النووية، بما يتناسب مع عالم قد لا تكون فيه «المظلة» الأميركية موجودة عند الحاجة.
*كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سيدينكيشن»
إقرأ المزيد