متاهة السفر الإلكتروني -1-
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

انس تلك المقولة القديمة سافروا ففي الأسفار خمس فوائد، لأن ماذا يمكن أن نسمي سفر العائلات هذا الذي يذهب فيه الأولاد والبنات بمختلف أعمارهم وهم مدججون بأسلحة دمار الذاكرة الشامل؟ وأعني به الأجهزة الإلكترونية الحديثة التي يتوحد الواحد منهم بها، فلا تفارقه منذ أن يفتح عينيه المجهدتين من السهر والمبيت معها في فراش واحد.
أمور لا تصدق هذه التي تجري مع الأولاد في هذا الوقت، وكلها مدعاة للكسل و«الرخامة»، فلو كحت الجدة العجوز، وأرادت شربة ماء، فلن تنهض البنت الصغيرة لتحضرها، ولا سيهبّ الولد قافزاً ليسعفها بشربة ماء، والسبب تلك الأجهزة الإلكترونية التي في أيديهم، والمتعلقة بها أبصارهم، والموقرين آذانهم عن السمع، حتى يشعرك أنه ملتصق بها أو جزء من عالمها الافتراضي.
الأب يجد ويجتهد ويكدّ ليوفر لعائلته إجازة صيفية أو شتوية ممتعة، بغية تنمية مدارك أولاده، وتزويدهم بالمعرفة، وكسب متع وخبرات الحياة، وهم يظلون يشحنون شنطهم بأجهزة التواصل، ويقلقون إذا ما باتت هذه الأجهزة الإلكترونية غير مشحونة أو شبكات الإنترنت فقيرة وضعيفة، ساعتها تتحول تلك المدينة بالنسبة لهم وكأنها مدينة أشباح، لا أكل جماعي يعرفون، ولا صلوات في أوقاتها عليها محافظون، حتى الفطور ينهضون له كسالى أو لا ينهضون، ولا يشتهون اللقمة، وإذا جاعوا سخنوا من تلك العلب الآسيوية وطعامهم اللزج، وأنسى بالتأكيد أي حديث يمكن أن يدور حول طاولة الطعام، يبقى الزوج وعجوزه عليها حتى يبرد الأكل، لتعافه النفس، وينهضان يضربان كفاً بكف حسرة وندامة.
هذه الأجهزة الذكية تعلم الأولاد الكسل، فلا ينهض الواحد منهم إلا متثاقلاً، ولا يأكل إلا وجبة واحدة وسريعة، ويلتهم المعجنات الجاهزة والمقرمشات، هذا الجيل الطالع أستطيع أن أحلف يميناً أنهم لا يعرفون نشرة الأخبار، ولا يستمعون لها، ولا تهمهم وجودها من عدمها، ولا قرؤوا صحيفة ورقية، الأمر الذي يعني نقصاً بمعرفة ما يجري حولهم، ناهيك عن قراءة كتاب ولو في الشهر أو تكوين معلومات حقيقية ومعارف ثقافية ذات قيمة عن البلاد التي زارها هذا الصيف، غير المطاعم التي يُعلن عنها في الإنستغرام من قبل جماعة «واو.. هذا المطعم يجنن، ولا غلطة»!، وكأنها تصنّفه بدرجة نجمتين «ميتشلان» بذاك القول أو يذهبون لأماكن يتتبعون خلالها خطى ذاك المؤثر على «التكتوك».
وليت تلك الأجهزة وألعابها تُخلق المعارف والمهارات في الحياة، كلها قتل صراصير وحشرات لاصقة أو القفز أعلى الحواجز أو سواقة سيارات سريعة أو السير في تلك المتاهات التي عليك تخطيها والعبور من خلالها أو حروب إبادة لأجناس بشرية ومخلوقات فضائية بأسلحة فتّاكة.
تمضي الإجازة، وقد زادت الشقة بين أجيال الأسرة، فلم يتقاربوا، ولم يتعارفوا، ولم يتبادلوا أي معارف أو تجارب، والسبب ذلك التوحد مع الأجهزة الإلكترونية الذكية المسافرة معنا، فكل واحد جالس على منصة، ويتواصل مع الغرباء والبعيدين من خلال أجهزة التواصل أو أجهزة التنابز، كل حسب عمره، واهتمامه، ولقد حاولت خلال تلك الأسفار أن أركز على أصابع وأيدي الأولاد والبنات من الأجيال الجديدة، والتي بدت لي متشابهة، ولا عرفت الشقاء والكدّ، ولا حملت في يوم ما فأساً، أيادي وأصابع متشنجة، وقابلة للانكماش، وغير معتنى بها، متخشبة، ومعقوفة، وتشبه أطراف «القبقوب» المنقض، ولا تصلح إلا للقبض على أسلحة دمار الذاكرة الشامل! ونكمل غداً.



إقرأ المزيد