جريدة الإتحاد - 12/9/2025 8:49:55 AM - GMT (+4 )
لم يكن مفهوم العلمانية مُنْصفاً في العالم الإسلامي، لقد وقع ضحيةً فوضى عمومية، بين مَن لم يفهم معنى هذا المفهوم فقام بشيطنته، وبين مَن يفهمه ولكنه لم يحسن شرح المعنى، وبين مَن يفهم ويحسن الشرح ولكنه خائف من مواجهة جمهور محكوم بتصوراته المسبقة. ولعل الخطورة في المحاولات العربية التي شرحت مفهومَ العلمانية أنها فسّرته بطريقةٍ شيطانية، وكأن العلمانية تعني التفسّخ وانهيار الأخلاق وتفكك المجتمع! شرح «بعض» المفكرين المفهوم، ولكن بحذر ومواربة، وآية ذلك أنهم طرحوا شروحاتٍ اعتياديةً من دون الدخول في البناء النظري للمعنى العلماني، ومن هؤلاء على سبيل المثال ، لا الحصر، طه حسين الذي لم يتطرق لمفهوم العلمانية مباشرةً بل اكتفى بالمقولة الدارجة «لا كهنوت في الإسلام». والمشكلة الأخرى فيما يتعلق بمفهوم العلمانية أن جماعة «الإخوان المسلمين» روّجت لتفسيرها الخاص حول هذا المفهوم وعملت على ذلك بكل إمكاناتها، ومن أخطر مَن فسّر هذا المفهوم المنظّر الإخواني محمد قطب، شقيق سيد قطب، وبصفة خاصة في كتابيْه «واقعنا المعاصر» و«الإسلاميون والعلمانية». لقد شيطن العلمانيةَ وربطها بالانحلال الأخلاقي. هذا التفسير أغلق على المثقفين إمكانيةَ الاستمرار في شرح المفهوم وإنصافه، إذ اربط «الإخوان» كلَّ مَن يبرر هذا المفهوم بالكفر والمروق عن الدين.
والموضوع الأخطر أن بعض المثقفين انطلت عليهم تفاسير «الإخوان» للعلمانية، وأضرب على ذلك مثالاً بالأستاذ الراحل محمد عابد الجابري الذي عارضَ المفهوم بشكلٍ مطلق، وذلك في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، وقد جادله في الموقف الأستاذُ الراحل جورج طرابيشي في كتابه «هرطقات». ويطرح الجابري «الديمقراطية» بديلاً عن «العلمانية»، ثم يشرح رأيه قائلاً: «في رأيي أنه من الواجب استبعاد شعار (العلمانية) من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي.. إن مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات». ثم يضيف الجابري تعبيراً عجيباً عن «العقلانية السياسية»، إذ يقول: «الديمقراطية تعني حفظ الحقوق، حقوق الأفراد، وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج».
لكن طرابيشي رد عليه: «إن الجابري، عندما يعوزه المزيد من الأسلحة المنطقية لتدعيم مقولته عن عدم لزوم العلمانية، يستعين بمنطق الأصوليين، ولكنه لا يأخذ من استدلالهم سوى مقدمته الصغرى، أي تحديداً الضعيفة. هكذا يقول بالحرف الواحد: أنا مقتنع تماماً بأن الإسلام هو دين ودولة في آن واحد».
والخلاصة من كل هذا، هي أن الحشد الأيديولوجي ضد العلمانية خدع حتى كبار المفكرين، ممن لم يدركوا أن العلمانية مفهوم يتطوّر وتتعدد استخداماته وتتنوع تطبيقاته، وقد أثبتت تجارب كبرى أن علمنة الدولة لم تقضِ على الأسس الثقافية ولم تعادِ الدين. إن العلمنة ليست أيديولوجيا، بل فضاء عام، وهي لا تخلق واقعاً جديداً، بل تبوّب الاختلافات بين الجموع وتعمل على تبيئة المجال الديني للفرد، بما يجعل التدين أكثر تهذيباً وأشد تأنقاً، ويجعل المجتمعات أكثر تعايشاً وأقل احتراباً.
*كاتب سعودي
إقرأ المزيد


