العِلم وصناعة الغد
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

دخل العالم المرحلة الثالثة من التطوّر العلمي بدخوله عصر روبوتات الذكاء الاصطناعي. بدأت المرحلة الأولى من مراحل التطور في القرن السابع عشر عندما تحوّل العلماء نحو التجارب العملية واعتماد النظريات المستندة إلى نتائج تلك التجارب، وتالياً تجاوز قاعدة قداسة الموروث العلمي. وبدأت المرحلة الثانية في أواخر القرن التاسع عشر بإنشاء المختبرات العلمية التي تطورت وتحوّلت إلى مصانع للإبداع، وذلك من خلال التكامل بين الإنسان والآلة.
ويقف العالم اليوم أمام المرحلة الثالثة تحت عنوان «الذكاء الاصطناعي». وهي المرحلة التي بدأت تفتح أمام الإنسانية آفاقاً معرفية جديدة بدقة أكثر وبشمولية أوسع وبوقت أقصر وبكلفة أقلّ، سواء في الجسم الإنساني، أو في العالم الذي نعيش فيه، أو حتى في الكون المحيط بنا. ففي الجسم الإنساني هناك على سبيل المثال مرض تكثّف الدم الذي يجعل سيلانَه صعباً داخل أعضاء الجسم. وقد تبيَّن من خلال الذكاء الاصطناعي أنه يمكن معالجة هذا المرض عن طريق حبوب زيت السمك. وبهذا تكون فكرةُ عالَم المختبر الآلي قد انتقلت من الحلم إلى الحقيقة. ويمارس هذا العالَم الآلي عملَه المختبري ويرافق تطوراته في كل جزء من الثانية دون كلل أو ملل. لقد أصبحت المختبرات العلمية أسرع إنتاجاً وأقل كلفةً وأشمل معرفةً وعلماً.
فقد اكتشفت الآلة الإلكترونية «حواء» (وليس الإنسان العالِم) أن في معجون الأسنان الذي يستخدمه الناس جميعاً مادة تُعرف باسم «تروكلوسان» تساعد على تنظيف الأسنان، وأن هذه المادة هي عدوّ فعّال ضد وباء الملاريا، وأنها مقاوم شديد للطفيليات التي تسبّب أمراضاً داخلية للإنسان.. وليس للأسنان فقط!
ثم إن العمل في المختبرات العلمية أصبح الآن يتواصل على مدار الساعة بسرعة أكبر وبدقة أكثر وبكلفة أقل. ولا يقتصر هذا التطور فقط على المختبرات العلمية، ولكنه يتجاوز ذلك إلى دراسة الكون من حولنا، أنجماً ومجرّات، بدقة وبسرعة وبشمولية لم يعهدها الإنسان من قبل.
ولعل من فضائل العلم الإلكتروني الحديث أن الأبحاث العلمية غير الصحيحة أو حتى غير المكتملة لم يعد بالإمكان تمريرها، لأن الحاسوب الآلي قادر على اكتشاف ما فيها من عيوب أو أخطاء، وبالتالي فهو قادر على الحكم بإدانتها. وبذلك توقفت عملية تمرير نظريات مغلوطة كما كان يحدث في السابق. وتبقى معتمدةً إلى أن يتم اكتشاف الخطأ فيها بعد أن يكون الناس دفعوا ثمن الخطأ غالياً.
كان الإنسان في الشرق والغرب يشكو من انتشار حالة فقدان فعالية المضادات الحيوية ضد بعض أنواع الميكروبات القاتلة. فقد استعصت أمراض وبائية على العلاج.. إلى أن تدخّل العلم الإلكتروني. ففي عام 2019 تمكّن العلماء في معهد ماساتشوستس في الولايات المتحدة من العثور على مضاد حيوي جديد يُدعى «هاليسيلين». وأدّى هذا الاكتشاف عبر الأبحاث الإلكترونية إلى تبديد المخاوف الإنسانية التي استمرت عدة سنوات من خطر انتشار أمراض وبائية غير قابلة للعلاج. وفي الشهر الماضي تمّ اكتشاف مضاد آخر أشدّ فعالية أُطلق عليه اسم «أبوسين». وما كان ذلك ليحدث لولا البحث الإلكتروني الذي تعامل مع ملايين الحالات المرضية قبل أن يصل إلى هذه النتيجة المطمْئِنة. ويصف أحد العلماء الذين ساهموا في إعداد الدراسة حول هذا الاكتشاف الطبي الهام أن البحث عن المضاد الحيوي المطلوب كان أشبه ما يكون بالبحث عن إبرة في كومة من القش. وقد لعب الجهاز الإلكتروني دور الحجر الممغنط في اكتشاف المضاد الحيوي والتقاطه. فهو اكتشاف يتعدّى القدرات الإنسانية الذاتية.
كان البحث يتطلب عمل آلاف العلماء الاختصاصيين. وكان يمكن أن يكلّف أموالاً طائلة وأن يستغرق سنوات عديدة.. إلا أنه اكتمل في أيام معدودة وبعدد محدود جداً من العلماء.
إن دخول الإنسانية المرحلة الحالية الجديدة من التطور العلمي بكل مظاهرها المبهرة يطرح السؤال الكبير: ماذا عن الغد؟ وأي مستقبل علمي ينتظر إنسان القرن الثاني والعشرين؟
 


*كاتب لبناني



إقرأ المزيد