جريدة الإتحاد - 12/10/2025 11:49:32 PM - GMT (+4 )
لم يكن صدور «استراتيجية الأمن القومي» الجديدة في واشنطن مجرّد تحديث لوثيقة دورية، بل إعلاناً سياسياً عن نهاية مرحلة كاملة، المرحلة التي لعبت فيها الولايات المتحدة دور «شرطي الشرق الأوسط» والحارس لأمن الممرات البحرية.
فالوثيقة تنصّ بوضوح على أن زمن هيمنة الشرق الأوسط على التخطيط للسياسة الخارجية الأميركية قد انتهى، وأن مركز الثقل ينتقل إلى نصف الكرة الغربي والمحيطين الهادئ والأطلسي، حيث تُرسم قواعد اشتباك جديدة مع الصين وروسيا. لم يكن هذا التحوّل مفاجئاً، لكنه يُقال للمرة الأولى بهذه الصراحة. لم يعد النقاش عن انسحاب أميركي بقدر ما هو عن إعادة توزيع للثقل الاستراتيجي. أوروبا مُطالَبة بتحمّل كلفة أمنها والتخفيف من الاعتماد على المظلّة الأميركية، ودخول مرحلة ما بعد اليقين الأمني، فيما يُعاد وضع أميركا اللاتينية في قلب العقيدة الأمنية بوصفها خط الدفاع عن الأمن القومي.
أمّا الشرق الأوسط فتبقى أهميته مرتبطة بثلاثة عناوين. أمن الطاقة، ومنع هيمنة قوة معادية، وتوسيع مسار السلام الإقليمي. وتبدو الرسالة إلى الشرق الأوسط واضحة. على العواصم الإقليمية أن ترفع منسوب مسؤوليتها عن أمنها وحدودها وممرّاتها البحرية، وأن تنتقل من منطق استدعاء الدور الأميركي عند كل أزمة، إلى منطق الشراكة المتكافئة والحلول المبنية على قدراتها الذاتية. وفي هذا السياق، تبرز تجربة الإمارات بوصفها نموذجاً استثنائياً في إدارة هذا التحوّل نحو عالم أقلّ اعتماداً على المركزية الأحادية، وقائم على المبادرات الإقليمية المسؤولة. الوثيقة الجديدة تقلّص الخطاب القيمي حول نشر الديمقراطية بوصفه هدفاً، وتستبدله بمنطق براغماتي يضع المصالح أولاً.
ومعيار الحكم على الشركاء أصبح قدرتهم على توفير الاستقرار، وحماية طرق التجارة والطاقة، ومنع الانفجارات الكبرى قبل شعارات أخرى. وبهذا المقياس برزت الإمارات من بين الدول القليلة التي راكمت، خلال العقدين الماضيين، رصيداً ثابتاً يضعها في مقدمة الشركاء الموثوقين. رسّخت الإمارات موقعها لاعباً اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، دولة تتصدر مؤشرات التنافسية والابتكار، وتستثمر في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، وفي الوقت نفسه تطوّر قدرات دفاعية متقدمة وشبكة شراكات وتكنولوجية.
وتنطلق في ذلك من تنويع محسوب لعلاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، والقوى الآسيوية الصاعدة، وشراكات في أفريقيا والأميركيتين، من دون الانجرار إلى محاور أو تحويل موقعها إلى ساحة تصفية حسابات. ينطلق هذا التموضع المتوازن من تعريف للمصلحة الوطنية. أمن الخليج والممرات البحرية، حماية الاقتصاد، وتقليص ارتدادات الفوضى الإقليمية قبل أن تصل.
ومن هذه الزاوية يمكن فهم دور الإمارات في تعزيز التعاون الدفاعي الخليجي، والانخراط في دبلوماسية تجمع بين الوساطة السياسية والجهد الإنساني وبناء صورة إيجابية للمنطقة، كجزء من استجابة واعية لتحوّل أوسع في قواعد النظام الدولي. واشنطن الجديدة تريد شرق أوسط أقل كلفة وأكثر قابلية للتوقّع، منطقة لا تتحوّل حروبها إلى استنزاف مفتوح للقوة الأميركية، ولا تسمح لخصومها باستغلال الفراغ الأمني. هذا يفتح هامشاً أمام القوى الإقليمية المسؤولة لتملأ الفراغ. حماية المضائق، مكافحة الإرهاب، تفكيك شبكات التهريب، وفتح مسارات للتسويات السياسية.
وهنا تأتي الإمارات جزءاً من الحل، فهي مهتمة بحماية أمنها الداخلي وحدودها، وتعمل على تعزيز استقرار جوارها لأنه شرط لاستمرار نجاحها. المفارقة أن تراجع مركزية الشرق الأوسط في الحسابات الأميركية يرفع من وزن الدول القادرة على إدارة شؤونها، وفي مقدّمتها الإمارات. فكلما انحسر الحضور المباشر للقوى الكبرى، ازدادت الحاجة إلى شركاء قادرين على ضبط التوازنات، وتأمين المصالح المشتركة بهدوء ومسؤولية. هذا هو جوهر النموذج الإماراتي في زمن ما بعد شرطي الشرق الأوسط. دولة فاعلة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، تستقبل عالماً أكثر تعقيداً بثبات وثقة.
*كاتب إماراتي
إقرأ المزيد


