جريدة الإتحاد - 12/15/2025 12:18:43 AM - GMT (+4 )
إبان ما كان يعرف بالربيع العربي، وبعيداً عن صخب الأحداث وموار السياسة الدولية والإقليمية تجاه مصر وعددٍ من الجمهوريات العربية، صدر في تلك المعمعة كتابٌ وثيق الصلة بتلك المرحلة وظروفها وأفكارها في هدوء يليق بالعلم والمعرفة ولا ينتمي للثورات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، كبرت أم صغرت. الكتاب هو للمفكر المعروف ماكس فيبر وعنوانه «العلم والسياسة بوصفهما حرفةً» من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية وترجمة جورج كورة، وهو الكتاب الأول من إصدارات المركز لأعمال ماكس فيبر، وقد كتب لتلك الترجمة وما تلاها من إصداراتٍ الدكتور رضوان السيد تقديماً علمياً وتاريخياً يرصد مقدمات أفكار فيبر وتفاصيلها وشيئاً من نتائجها، مع مناقشة علميةٍ رصينةٍ لها، وهو تقديمٌ بالغ الأهمية لأنه يشكل مدخلاً حقيقياً لفكر ذلك المفكر المهم وتأثيراته المتلاحقة. يمكن الاكتفاء هنا بهذه العبارة المكثفة لرضوان السيد في ذلك التقديم، والتي يقول فيها: لقد رأى ماكس فيبر المؤرخ للأديان والنظم، والسوسيولوجي المعني بالفهم وبناء المفاهيم، أن أوروبا الحديثة (والولايات المتحدة)، إنما تقوم على ثنائية العلم والعمل السياسي.
العلم باعتباره معرفةً، وباعتباره تقنيةً وتقدماً واحترافاً، والعمل السياسي باعتباره مشاركةً في إدارة الشأن العام (= الوطن)، وباعتباره حرفةً واختصاصاً (=البيروقراطية والمهام الاستشارية في التقليد الأميركي)، وباعتباره في الحاضر والمستقبل قيادةً زعاميةً شعبيةً ودولتيةً». تكاد هذه الكلمة الشاملة أن تلخص أفكار فيبر الرئيسية بتكثيفٍ كبيرٍ وشموليةٍ علميةٍ، تنبئ عن مجمل الأفكار الفيبرية وتاريخها ومستقبلها، وسيلحظ القارئ لكتابات فيبر أنه حين كتب «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» رأى أن البروتستانتية هي وحدها التي أمكن أن تتسق مع روح الرأسمالية، بينما انتقد أديان الشرق وبخاصة «الكونفوشية والتاوية والهندوكية»، التي لم تكن رشيدةً في علاقتها بالرأسمالية.
إن هذه الفكرة لوحدها تبين عن القصور في معرفة الأديان وإمكاناتها وليس مجرد واقعها لدى ماكس فيبر، ففي الإسلام وحده تأكيداتٌ متكررةٌ على قيمة العمل والاحتراف والإتقان في العمل، ولها شروحاتٌ وكتبٌ ترصد نصوصها الشرعية وتطوراتها التاريخية وتفسيراتها وتأويلاتها في قرونٍ متطاولة، وصولاً للواقع المعيش، والتعميم الذي أطلقه فيبر لا يليق بعالمٍ وفيلسوفٍ بحجم فيبر. هذا السياق لا يعني بحالٍ إنكار ما للغرب من قيمةٍ حقيقيةٍ ومستقلةٍ في النهضة الحديثة للعالم من عصر النهضة إلى عصر التنوير إلى العصر الحديث، والمعجزة الإنسانية التي خلقها الغرب ونقل بها البشرية نقلةً نوعيةً كبرى لا مثيل لها في التاريخ، ومع الإقرار بأنها تعبر عن تراكماتٍ حضاريةٍ متعددة المصادر، ولكنها أبداً لم تخرج من أي حضارةٍ غير الحضارة الغربية.
إن منطق التاريخ يمنحنا تفريقاً واضحاً بين الأفكار التي تحوّلت واقعاً معيشاً وصنعت التاريخ وبين إمكانيات الأفكار التي أهدرت لأسبابٍ متعددةٍ، فحكم التاريخ ليس مبنياً على العقائد والأماني أو التاريخ الموازي أو ما يمكن أن يكون، بل هو تعبير حقيقي وواقعيٌ عما جرى وأثر وبقي في مسيرة البشرية.
ومن خلال ما بقي من أفكار فيبر يمكننا قراءة الكثير من تفاصيل سياقنا الحضاري العربي والإسلامي، الذي ما زالت تصطرع فيه الأفكار التي تجاوزتها الحضارة الغربية، من مثل علاقة الدين بالسياسة، ودور رجل الدين في المجتمعات، وتنظيم العلاقة المؤسساتية في الدولة بين المجالين، وهو ما نجد في تاريخنا القديم والحديث شواهد تدل عليه وتؤكده، ولكنه ظل على هامش الفكر بعدما اختطفت جماعات الإسلام السياسي الدين الإسلامي واختصرته في خدمة أهدافها السياسية والسلطوية. أخيراً، فليت أن فيبر يجد جامعاتٍ وأكاديميات عربية وإسلامية تدرس أفكاره وتقارنها بالواقع المعيش في سياقنا الحضاري.
*كاتب سعودي
إقرأ المزيد


