جريدة الإتحاد - 12/15/2025 12:18:48 AM - GMT (+4 )
لعل الأجيال الجديدة كوَّنت علاقة من نوع آخر ومختلفة عن علاقاتنا، نحن الجيل الماضي، بالعاملين والعاملات في المنازل، علاقة تشكلت من وجود العاملات في المنازل والمربيات أو الطباخات، وملازمتهن الدائمة لأولادنا، واحتلالهن لحيز ليس بالبسيط في حياتهم ومن حياتهم وتعبيراتهم، خاصة في الصغر، حيث تتشكل العلاقات والعواطف والوشائج الاجتماعية، بعض هذه العلاقات تكبر حتى تشيخ الشغالة في البيت، ويكبر الأولاد، ويصعب عليهم فراقها أو تمتد العلاقة لبلادها ومدينتها، وتظل موصولة بالهبات والعطايا وحتى الزيارات بعد أن تترك خدمتها وتعود لبلادها، وتستقر في منزل شَقيت من أجله كل هذه السنين بالصبر وحده، والتضحية.
وخلال العقود المنصرمة من هذه العلاقة والتواجد، ظهرت كثير من القصص للعاملات والمربيات، فليس كلهن سيئات وعديمات الإنسانية، بل هناك قصص من واقع حياة الناس الحقيقية، تجلى فيها الوفاء من الجانبين، وظهر الجميل والإحسان من قبل هؤلاء الصغار الذين تربوا في كنف أولئك المربيات والمساعدات المنزليات، وغدون بمثابة أمهات بديلات أو أمهات رديفات، فكم من ولد، وحينما أنهى دراسته الجامعية، تذكر تلك الشغالة التي رعته واهتمت به، وكانت تحاظيه وتحمله على خاصرتها، وتغير له، وظلت تَخمّ غرفته بفوضويتها المعهودة، فكان منه الوفاء تجاهها، ولا يكفيها، ولا يكافئها أن يسلمها راتبه الأول كاملاً، عرفاناً بالجميل، ورد الإحسان والعطف الكبيرين.
كثير من العائلات، حينما تسافر إلى مدن بعينها، تتذكر أول ما تتذكر الشغالة القديمة، فيبرونها بالوصل والسلام ولا يبخلون عليها بالعطايا أو يستدعونها في عجزها لتتطبب هنا وتتعالج، ثمة أمور وعلائق إنسانية ما إن تتشكل حتى يصعب فك عراها أو قطع حبال وصلها، هكذا هو الإنسان الحقيقي.
حتى أن بعض هذه القصص بين العائلات والشغالات ترقى لأن تصبح قصص أفلام؛ لما فيها من شحنات عاطفية وعلاقات إنسانية، خاصة حين يمتد الزمن، وتطول الأيام، وتتداخل المسائل العائلية، فتنتفي علاقة الخادم بالمخدوم، ويبقى الود الإنساني، وصفاء السريرة التي جُبل عليها الإنسان وفطرته الآدمية الصافية، فالدمع هو المرادف لكلمات الوداع حين تنتهي العلاقة، وتعود الطيور لأعشاشها، دموع نشيع بها علاقة بدأت تكبر من يومها الأول دون أن ندري، وبقيت القلوب تخبئ، وتضم، وحين تصل الخطوات لآخر عتبات الوداع يظهر هذه التفجر العاطفي والوجد الإنساني من كلا الجانبين.
ليست بالتأكيد كل العلاقات تصلح لتكون نموذجاً إنسانياً، فكثير من هؤلاء العاملات أو العاملين، تنتهي العلاقة في ذلك اليوم الذي ختمت فيه الأوراق، وبعضهم يشقون طريقاً لعلاقات أخرى في بلدان أخرى وعند عائلات جديدة، صفة الولاء والأمانة والإخلاص هي ما نعني بالعلاقات المتميزة والتي تبقى مع الأيام، وتؤثر في النفوس، وربما ترتقي بالإنسان، وتغير مساره، وربما حظوظه، فكثير من السائقين المخلصين، وجدوا شيئاً من الإرث والتوصية لهم، وكأنهم من أفراد العائلة.
وكم من مربية أوعاملة منزل حين ترى صور أولئك الأولاد والبنات وهم يصرخون في أرجاء المنزل ويتقافزون في أركانه، وقد أصبحوا اليوم آباء وأمهات، ولديهم صغار يشبهونهم، تخرّ دمعة من عينها متذكرة وقتها ووقتهم الذي مضى، وكأنه الأمس القريب!
إقرأ المزيد


