جريدة الإتحاد - 12/15/2025 12:42:42 AM - GMT (+4 )
يمثل «مهرجان الصحة» في إمارة أبوظبي خطوة نوعية تعيد تشكيل المشهد الصحي والاجتماعي، وهذا الحدث الذي أطلقته دائرة الصحة في أبوظبي، بالشراكة مع مركز أبوظبي للصحة العامة، يأتي في نسخته الأولى، ليؤسّس مرحلةً جديدةً يُعاد فيها تعريف الصحة بوصفها مسؤوليةً مجتمعيةً، وتجربة يومية، ومشروعاً وطنياً يعكس رؤية دولة الإمارات في تعزيز رأس المال البشري وبناء مجتمع أكثر وعياً واستدامةً.
يمتدّ المهرجان عبر 3 محطات تتوزّع جغرافياً على إمارة أبوظبي، تبدأ من جزيرة الحديريات بين 12 و16 ديسمبر، ثم حديقة مدينة زايد في الظفرة بين 19 و21 ديسمبر، وأخيراً حديقة الجاهلي في مدينة العين من 26 إلى 28 ديسمبر. وهذا الانتشار الجغرافي ليس مجرد تنظيم لوجستي، بل يعكس فلسفةً واضحةً تؤمن بحق الجميع في الوصول إلى الخدمات الصحية، بحيث تتحوّل الفعالية إلى تجربة اجتماعية تتجاوز حدود المدن. كما أنّ اختيار نهاية العام توقيتاً للمهرجان يحمل رسالة رمزية تدعو الأفراد إلى إعادة ضبط بوصلتهم الصحية، في وقت يشهد فيه العالم ارتفاعاً في معدلات الأمراض المزمنة، وتحديات نمط الحياة، مما جعل الوقاية خياراً استراتيجياً لا يقبل التأجيل.
وقد تم تصميم المهرجان من خلال الدمج بين التعليم العملي والترفيه، ويرتكز برنامج المهرجان على أربعة محاور أساسية: الغذاء الصحي، والنشاط البدني، والصحة النفسية، والنوم السليم، ما يجعله منصةً لإعادة صياغة العلاقة بين الفرد وصحته عبر الممارسة والتجربة، لا عبر التلقين النظري أو الحملات العابرة.
وتعكس قائمة الشركاء المحليين والدوليين حجم الرؤية التي تقف خلف الحدث، إذ تشارك في تنظيمه ودعمه جهات رائدة، مثل دائرة البلديات والنقل، ومجلس أبوظبي الرياضي، إلى جانب شركاء عالميين مثل «نستله» و«أسترازينيكا». وهذا التنوّع يعكس مقاربة شاملة تمتدّ من الوقاية إلى الابتكار الصحي، ومن تعزيز النشاط البدني إلى دعم الأمن الغذائي.
ومن زاوية تحليلية، يمثّل المهرجان نقطة تحوّل في نهج أبوظبي تجاه الصحة العامة، متجاوزًا النموذج العلاجي التقليدي إلى نموذج وقائي ينسجم مع التوجّهات العالمية الأكثر تقدّمًا. فمع تزايد التحديات المرتبطة بالسمنة، والضغط النفسي، ونمط الحياة قليل الحركة، يُصبح هذا النوع من الفعاليات أداةً استراتيجيةً لإحداث تغيير ثقافي طويل الأمد، يعيد بناء الوعي الصحي على أساس التوازن بين العقل والجسد. كما يبرز دور التكنولوجيا في تعزيز السلوكيات الصحية، من خلال التجارب الرقمية التي تسمح للزوار بتتبّع نشاطهم، وتقييم عاداتهم، والحصول على نصائح مخصّصة، بما ينسجم مع خطط التحوّل الرقمي للقطاع الصحي.
أما استشرافياً، فيُتوقّع أن يتحوّل المهرجان إلى منصة وطنية وإقليمية للابتكار في الصحة والرفاهية، وأن يتوسّع في السنوات المقبلة ليشمل مبادرات رقمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لمراقبة المؤشرات الحيوية، أو تجارب تعليمية تعتمد على الواقع المعزّز لتعزيز السلوكيات الإيجابية، بما يدعم رؤية الإمارات 2031 في بناء اقتصاد معرفي يعتمد على رأس المال البشري الصحي. كما أنّه من المتوقّع أن يرسّخ المهرجان مفهوم الربط بين الصحة والاستدامة، عبر برامج توعوية تتناول التغذية المستدامة، وتقليل الهدر الغذائي، وربط الصحة الفردية بالبيئة.
ولا تقتصر أهمية المهرجان على نشاطاته المباشرة، بل تمتدّ إلى دوره المحتمل في صياغة سياسات عامة تستند إلى البيانات النوعية التي يمكن جمعها من التفاعل المباشر مع الجمهور. فهذه البيانات، إذا ما استُثمرت بذكاء، ستسهم بالتأكيد في تحسين كفاءة النظام الصحي، وتقليل التكاليف طويلة الأمد، ورفع جودة الحياة، وتعزيز الإنتاجية المجتمعية.
إن «مهرجان الصحة» لا يجب النظر إليه بوصفه حدثاً موسمياً، بل باعتباره منعطفاً استراتيجياً ضمن مشروع حضاري كبير، تؤكّد فيه أبوظبي بوضوح أنّ الرفاهية ليست امتيازاً، بل هي جزء من رؤية متكاملة تسعى لبناء مجتمع أكثر توازناً وسعادة. وفي عالم مليء بالتحديات، يبقى رهان دولة الإمارات واضحاً: الوقاية هي خط الدفاع الأول، والصحة ليست هدفاً مؤقتاً، بل أسلوب حياة.
*صادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
إقرأ المزيد


