سرد الغيمة
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

عند الفجر، وقت بزوغ اللحظة الزاهية، سمعت طرقاً على زجاج النافذة، تراءى لي شبه نقرة خلف الوسادة، فوثب بين الضلوع أرنباً مذعوراً، وشب في الروح حطب ذاكرة قديمة قدم التاريخ، نهضت، ورفعت قماشة أرق من عين حمامة برية، نظرت من خلال النافذة، فكانت الغيمة تخيط معطف الماء على وريقات شجرة اللوز، وقالت لي همسة من طرف خفي سعدت صباحاً، فأيقظت في الروح أوراق تاريخ مسهب في البريق، أيقظت في عصافير الفرح، وبعض دموع مجهولة، جاءت مثل عابر سبيل يبحث عن مأوى له تحت الجفنين، أخذت نفساً عميقاً، شعرت في تلك اللحظة المباغتة بأن الغيمة تعصر ضرعاً، لعله يشفي غليل شفاه مرّ عليها في الزمان ما مرّ من عبوس النخلة، حين تكون السماء سقفاً مرفوعاً يطل على العالم بجفاف عاطفي. 
وقفت برهة، وأحسست بحاجة وجودية لفنجان قهوة، يداعب لسان البوح برائحة الهيل، وطعم الزعفران، في تلك اللحظة لم أجد من يغيث، سوى يدي، فغادرت النافذة، ودخلت معمل الكيمياء المعتاد، وصنعت لي ما احتاجت إليه النفس من مشروبي اليومي، وبينما أنا منهمك في ارتشاف صنع يدي، دقت ساعة المطر مرة أخرى بعد توقف، وقفت أمام النافذة، وتأملت السماء الفضية، تأملت المدى المفتوح إلى ما لا نهاية، تساءلت، كيف يمكن لي أن أرى ما خلف الغيمة، وهي تطوي السماء بملاءة قطنية رمادية، مثل عيون امرأة شرقية، أغار على رموشها كحل المساء. 
توليت أمر التأمل في أغصان شجرة اللوز، وهي ترقص طرباً، بالصباح الاستثنائي، ورحت أقرأ قفزات الطائر العصبي الصغير، وهو يحيي تظاهرة كونية، ويتنقل بين أغصان الشجرة، وصوته يشق غشاء الغيمة، ويصلني مثل ترنيمة، قيثارة صحراوية، أطلق لحنها كائن صحراوي غنم موهبة عشق الغناء. 
بعد فترة، توقف المطر، وأعرضت الغيمة عن الغناء، بدأ الهواء الرطب يدير رحاه، ويحرك مكامن قلب الوجود، بصورة فجة، لم تعجب العصفور الذي صار يستجلب كل قواه الفطرية، ويعبّر عن غضب غريزي شعرت بأنه يحب الغيمة، ولا يحب دوران رحى الهواء المسف. بعد مضي فترة ليست بالقصيرة، رأيت شجرت اللوز، تتحلّل من بعض أوراقها، وتلقي بغصن متين على الأرض المبللة بالماء، لم أشعر بالراحة، والشجرة تعاني من كسور، ورضوض في عظام اليدين والساقين، وأحسست بأنها تنظر إليّ، وفي عيون عصافيرها دموع الفقدان، فكرت في عمل شيء ما، ولكن المطر عاد يدق أجراس كنيسته، إيذاناً بموعد جديد مع الغيمة المباركة، حيث الهواء تقهقر إلى الوراء، وتخلى عن جبروته، مؤذناً بتصالح مع الغيمة، فاسحاً لها الطريق، كي تنقش أوراق شجرة اللوز، بقطرات كأنها فصوص الفضة على فستان حسناء.



إقرأ المزيد