نبحث عن مدائن شقائق الروح -1-
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

لا يمكن أن تضع مدينة المسك والزعفران طينتها، والخير والبشارات فيها في ميزان مع مدينة تنظر إلى الإنسان من شاهق سماء عالية ومتعالية، لا تفرح إلا بإظهار القسوة على ظهره مستدرجة إياه نحو الشرور التي تزينها له، هكذا حال المدن مع المسافر دوماً، عليه أن يميزها بعلامة أو وسم فمن تلقاك بود، وتودعك بدمعة ليست مثل تلك المدينة التي تعدك شحمة زائدة في قدومك وفراقك أو رقماً لا يضحك سنها.
هكذا.. بعض المدن، وخاصة الكبيرة المتغطرسة تشعرك باليتم، وتستدرجك نحو وحدة لا تحبها، خاصة إذا ما جنّ الليل فيها، وبدأت تفرز الناس المستلبين نحو غواياتها واشتهاءاتها مسبقة الصنع، فجأة تثب على روحك محاولة سرقة شقاوتها وفرحها وبهجتها تجاه ألوان الحياة، وتحاول أن تمارس عليك وطأة قدمها الرأسمالية المتكبرة، ولو كان جيبك عامراً، ثمة فعل لبعض المدن خاصة التي لا تستند إلى تاريخ قديم يحافظ على روحها، ولا تعفرت يوماً بسنابك الخيل، وعرق الفرسان، ولا وهج انتصارات الناس، لم يخلدها فلاح بمنجل حصاده، ولا بشق الأرض بفأسه زارعاً شجراً لأحفاده، بعض المدن تشعرك أن لها بوابات من حديد صدئ كمصنع مهجور، لا أقواس في قناطرها حانية، ولا جسور من ود ومحبة على خاصرة نهرها، مبان زجاجية تنهرك من بعيد، وتتعامل معك كقطنة شاش طبية مبلولة، لا درويش فان متفان فيها يذرع سكيكها، منتظراً قدوم سلطان العارفين، ولا مجنون الحي الذي لا يؤذي، يوصل بنات الحي العائدات من مدارسهن إلى منازلهن بعيونه، ولا نفر من الشباب الغض كحرّاس غير منصبين على الحي، يمكن أن يفزعوا لأي شيء، وكثيراً ما يختلقون الأعذار ليقدموا للناس خيراً وإحساناً أو يدلّوا غريباً على عنوانه أو يعضدوا أعمى حتى يعرف دربه.
مدن قاسية لا لون طاغ غير لون الرماد والأسمنت الفج فيها، وذاك البريق اللامع في زجاجها الذي يغشى ويعشي العين، لا نوافذ مواربة على الستر، تنتظر مطراً خجولاً آخر الليل أو نافذة سهرانة تستدرج السمع لصفير محب يدندن بلحن طروب لحبيبة القلب، لا عجوز تتوسد عتبة الدار، ترسل دهشتها العاجزة، وكلاماً كثيراً عالقاً في الحنجرة، كانت في أيامها تتحدث به مع صديقات العمر اللآي تناقصن سنة بعد سنة، لا بواقي فرسان ترجلوا يجمعهم فيء شجرة قديمة يتبارزون في معارك نسيها الجيل الجديد وبقيت ماكثة في رؤوسهم الشائبة، وبقايا ميداليات ظلت تصدأ على صدورهم بفخر، مدن حيّة بالناس، ومن أجل الناس، عجنتهم، وبها عجنوا، مدائن هي الأقرب، ونبحث عنها لتكون شقائق الروح... وغداً نكمل.



إقرأ المزيد