جريدة الإتحاد - 12/21/2025 12:27:32 AM - GMT (+4 )
ربما تكون المفاضلة معقدة بين مدن محنطة مبطنة، وتمارس على الإنسان البسيط تلك الفوقية، وبين تلك المدن التي يهفو لها الفؤاد من أول مرة، وحين تتركها يبقى منها شيء ما عالق بك، تود لو تقول: إن أوسلو أو الدنمارك أو نيويورك أو دوسلدورف الجميلات هن شقائق الروح، فلا تقدر، قد تحب إحداها أو كلها لكن تبقى مسافة بينها وبين الروح، لكن فجأة تدخل واحدة من تلك المدن المتوسطية المغايرة، والتي تكره لون الإسمنت، وبيوتها معفّرة بتربة التاريخ، فيغيب ذاك اليتم الذي في المدن المتخشبة، تناديك شبابيك زرقاء استلفت زرقتها من لون السماء، وشرفات ترنو إلى البحر تودع سفينة غاربة أو تستقبل أخرى آيبة، مدينة مثل الجزائر العاصمة، وقصبتها العالية، ضاجّة بالناس وبالمعروف والرجولة الماكثة، مدينة تخبئ لك الكثير، مثلما حملت في صدرك الصغير محبتها ووجع ناسها، ونشيدها المرعد، منذ الصفوف الأولى، تفتح ذراعيها صارخة فرحة بذات الشاب الذي لم يتعد الثامنة عشرة، وكان ذات صيف هناك، سامعاً كلاماً من الحاجّة همساً بالدعاء: «مرحبا وليدي.. آه.. حنوني»!
تتذكر بغداد مثلاً، بيروت مثلاً، مراكش مثلاً، دمشق والقاهرة والقدس وصنعاء وتونس وبورصة غرناطة، بخارى وسمرقند مثلاً، تلك مدن تضفي عليك من فيوضها، وتطرح أثوابها الطاهرة، وأشياء وروائح يمكن أن تكون أقرب إلى الدفء والود والدعوات، ويمكن أن تشاركك لقمتها في الصبح والمساء، مرة تشبه بركة الأم، مرة مثل فرحة الأخت الكبرى، مرات فيها من عطور الخالات أو كرم الجدات.
لكن هناك مدن تظل بين ثنايا الذاكرة، وغير بعيدة عن قفص الصدر رغم عجرفتها، وتنازلها عن نبالتها، باريس مثلاً، مدريد مثلاً، إسطنبول مثلاً، لكنك لا تنسى أنها أطعمتك الكثير من سعادتها خلال سنواتها الطوال، وجعلت القلب والعقل يتسعان، وكحلت عينيك بما يسرهما ولا يرمدهما، وألقت عليك من تعاويذ محبتها ما يجعلها المبتدأ وهي المنتهى، إما في رحلة الشتاء أو رحلة الصيف، وهي ما تلبث إلا أن تخبئ لك في كل مرة سراً من أسرارها أو عطراً من أردانها.
في البحث عن مدن هي أقرب لشقائق الروح، هناك متعتان، متعة البحث، ومتعة الوجد الذي تلاقي.
إقرأ المزيد


