جريدة الإتحاد - 12/21/2025 2:01:25 AM - GMT (+4 )
سعد عبد الراضي
لم يعد الذكاء الاصطناعي ترفاً معرفياً أو أداة تقنية هامشية، بل تحوّل إلى عنصر فاعل يعيد تشكيل أدوار المعلّم، ويطرح أسئلة عميقة حول المحتوى، والمنهج، والمهارة، والهوية. وفي ظل هذا التحول المتسارع، بات المشتغلون في اللغة العربية أمام لحظة فارقة تتطلب إعادة التفكير في أدوات التعليم، وطرائق التدريس، وكيفية مخاطبة أجيال نشأت في قلب الثورة الرقمية.
وفي هذا السياق، جاء مؤتمر الذكاء الاصطناعي واللغة العربية، الذي أُقيم ضمن فعاليات مهرجان أيام العربية، واختتم مؤخراً في منارة السعديات بأبوظبي، ليقدّم مقاربات علمية وتربوية جديدة، بمشاركة نخبة من الأكاديميين والخبراء والممارسين، ونظمته جامعة نيويورك أبوظبي بالتعاون مع مركز أبوظبي للغة العربية.
وقد شكّل المؤتمر منصة حوار معمّق حول مستقبل اللغة العربية في عصر النماذج اللغوية الضخمة، مسلطاً الضوء على التجارب التطبيقية، والتحديات التربوية، والفرص التاريخية التي يتيحها الذكاء الاصطناعي للمشتغلين في مجال اللغة العربية، من أساتذة وباحثين ومعلمين.
في البداية أكد الدكتور عطية يوسف، أستاذ بجامعة إنديانا في الولايات المتحدة الأمريكية، ومدير التدريس الخاص لبرنامج الفلاجشيب لتدريس اللغة العربية، ومدير المناهج والتقويم بمدرسة ميدلبري العربية الصيفية، أن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة علمية غير مسبوقة، لا تقل أهمية عن ثورة الإنترنت، بل قد تتجاوزها تأثيراً وانتشاراً.
وقال: «الذكاء الاصطناعي للإنتاج الإبداعي والوظيفي والتعلم القائم على المدخلات. الذكاء الاصطناعي وما نحن بصدد الحديث عنه الآن هو ثورة علمية لا تقل أهمية عن ثورة الإنترنت، بل لعلها أقوى وأعظم من أي ثورة سابقة».
وأشار إلى أن وصول تطبيق ChatGPT إلى مئة مليون مستخدم خلال شهر واحد فقط، في الفترة ما بين 30 نوفمبر ونهاية ديسمبر 2022، يُعد سابقة تاريخية لم يشهدها أي منتج تقني سابق، ما يعكس حجم التحول المتسارع الذي يفرض على الأنظمة التعليمية مراجعة شاملة لأدواتها ومناهجها.
نماذج لغوية
وأوضح الدكتور عطية أن الجديد في المشهد الراهن لا يكمن في مصطلح الذكاء الاصطناعي ذاته، الذي يعود إلى عام 1956 عندما صاغه جون مكارثي، بل في بروز النماذج اللغوية الضخمة (LLMs) مثل ChatGPT وGemini وClaude وCopilot وDeepSeek.
وقال في هذا السياق: «طبعاً مصطلح الذكاء الاصطناعي قديم، لكن الجديد والمبتكر الآن هو النماذج اللغوية الضخمة، والآن تطمح الشركات للوصول إلى الذكاء الفائق أو الذكاء العام الذي يستطيع أن يفكر ويتخذ قرارات مستقلة».
وأضاف أن الذكاء الاصطناعي لم يعد يعتمد فقط على الترجمة من المحتوى الإنجليزي، بل أصبح يعتمد بشكل متزايد على المحتوى العربي الذي تدرّب عليه، ما يفتح آفاقاً جديدة لتعزيز الإبداع وتقديم صفوف دراسية غير تقليدية.
دور المعلم
وشدد الدكتور عطية يوسف على أن التحدي الحقيقي لا يكمن في امتلاك الأدوات، بل في توظيفها تربوياً، مؤكداً ضرورة استخدام الذكاء الاصطناعي بيداغوجياً وليس إبداعياً فقط. وقال: «الأستاذ الذي يستخدم هذه الأدوات بذكاء يصبح كأنه يدير فريق عمل من المتخصصين».
وطرح في هذا السياق استراتيجية 10-80-10، موضحاً أن 10% من الجهد يبذله المعلم في اختيار الأداة المناسبة وكتابة الأمر (Prompt) بدقة، و80% تنجزه النماذج الذكية، فيما يعود للمعلم 10% أخيرة للمراجعة والتعديل وإضافة اللمسة الإنسانية التي تلائم احتياجات طلابه. وأكد أن الذكاء الاصطناعي شريك لا بديل، مشيراً إلى أن القرار النهائي واللمسة الثقافية واللغوية يجب أن تبقى بيد المعلم.
جيل رقمي
وتناول الدكتور عطية أهمية مخاطبة جيل زد بلغته وثقافته الرقمية، محذراً من التمسك بالطرائق الكلاسيكية القديمة في تعليم اللغة العربية. وقال محذراً: «التأخر في دمج التكنولوجيا في تعليم اللغة العربية قد يؤدي إلى ضرب اللغة في مقتلها». وشبّه هذا التأخر بما حدث تاريخياً عند اختراع آلة الطباعة، حين أدى التردد في تبنيها إلى تأخر حضاري وعلمي طويل.
وأشاد بظهور نماذج لغوية عربية رائدة، مثل نموذج فنار في دولة الإمارات، وفالكون في دولة قطر، وهيومان في المملكة العربية السعودية، معتبراً أنها خطوات استراتيجية نحو بناء سيادة لغوية رقمية عربية. كما دعا إلى إنشاء نموذج لغوي عربي بيداغوجي متخصص، يُدرّب خصيصاً على المناهج والوسائل التعليمية، ويخدم التعليم قبل الجامعي والجامعي، ويتناسب مع البيئات التعليمية المختلفة.
تنظيم علمي
من جانبها، أكدت الدكتورة خلود كتانة، رئيسة قسم دراسات اللغة العربية في جامعة نيويورك أبوظبي، أن المؤتمر مثّل محطة نوعية في مسار توظيف الذكاء الاصطناعي لخدمة تعليم اللغات. وقالت: «مؤتمر الذكاء الاصطناعي وتعليم اللغات شكّل محطة نوعية في مسار توظيف التقنيات الحديثة لخدمة اللغة العربية».
وأوضحت أن الجامعة تولّت تنظيم ورش العمل التطبيقية (Hands-on Workshops) بالتعاون مع مركز أبوظبي للغة العربية، في تجربة جاءت ثمرة عمل علمي وتنسيقي استمر عدة أشهر.
بناء الوعي الثقافي
وبيّنت خلود كتانة أن التحضير للورش بدأ منذ مطلع العام، بالتعاون مع الدكتور عطية يوسف، وبدعم مباشر من مركز أبوظبي للغة العربية، ما أتاح تصميم برنامج متكامل شمل الإعداد الأكاديمي والتنظيمي والتنفيذي من البداية حتى الختام. وأضافت: «حرصنا على أن تكون الورش تطبيقية بامتياز، بحيث يخرج المشارك بأدوات حقيقية يمكن توظيفها مباشرة في الصف الدراسي». وأشارت إلى أن الورش شهدت مشاركة أكاديميين من داخل الدولة وخارجها، إلى جانب ضيوف من قطر والولايات المتحدة والمملكة المتحدة والأردن، ما منح المؤتمر بعداً دولياً وتبادلاً معرفياً ثرياً.
وشددت الدكتورة خلود كتانة على أن الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على الجانب التقني، بل يتجاوز ذلك ليكون أداة لبناء الوعي الثقافي وتعزيز التفكير الإبداعي، من خلال ربط تعلم اللغة بالهوية والثقافة. وقالت: «اللغة العربية قادرة على مواكبة التحولات الرقمية، متى ما أُحسن توظيف التكنولوجيا لخدمتها لا لاستبدالها».
تعزيز الإبداع
وفي سياق التجارب الميدانية، أكدت المعلمة علا الخطيب، رئيسة قسم اللغة العربية في إحدى أكاديميات الدار، أن المؤتمر فتح آفاقاً واسعة أمام المعلم، مشيرة إلى أن الذكاء الاصطناعي يوظف الخبرة الأكاديمية للمعلم ضمن سياق تفاعلي حي مع الطلبة.
كما رأت المعلمة سماح الشخيبي أن مشاركتها في المؤتمر شكّلت نقطة تحول في ممارساتها التدريسية، إذ مكّنتها التطبيقات التي تعلمتها من تحويل الدروس إلى تجارب أكثر جذباً وفاعلية، مؤكدة أن الذكاء الاصطناعي بات أداة مساندة تعزز الإبداع دون المساس بجوهر اللغة أو دور المعلم.
إقرأ المزيد






