جريدة الإتحاد - 1/20/2025 11:56:18 PM - GMT (+4 )
شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة تحولات سياسية وعسكرية جذرية، أحدثت تغييرات عميقة في موازين القوى وفي طبيعة الحياة اليومية لملايين السكان. بين دمار غزة، ومعاناة لبنان، وسقوط النظام في سوريا، يبدو أن خريطة جديدة للمنطقة تتشكل، تحمل في طياتها فرصاً للتغيير، لكنها تطرح أيضاً تحديات كبيرة. بدأت الأحداث في غزة، حينما شنت حركة «حماس» في أكتوبر 2023 هجوماً مفاجئاً على إسرائيل، أدى إلى تصعيد عسكري هو الأعنف منذ عقود.
ردت إسرائيل بعمليات عسكرية واسعة النطاق، أسفرت عن تدمير كبير للبنية التحتية في القطاع، وتحويل أجزاء كبيرة من غزة إلى مدينة أشباح. التقارير الدولية تشير إلى مقتل ما يقرب من 46000 فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال، إضافة إلى نزوح حوالي 1.9 مليون شخص، أي ما يعادل 90% من سكان القطاع. فيما كانت غزة تعيش واحدة من أسوأ أزماتها الإنسانية، أعلنت «حماس» بعد 15 شهراً من القتال موافقتها على وقف إطلاق النار، مبررة ذلك بحقن الدماء الفلسطينية. ومع ذلك، ألقى كثيرون باللوم على الحركة لجر القطاع إلى صراع غير متكافئ، أدى إلى دمار شامل وتردٍ غير مسبوق في أوضاع السكان. تم تدمير أكثر من 30 مستشفى ومئات المدارس، مما زاد من معاناة السكان، الذين أصبحوا يواجهون تحديات تتجاوز فكرة إعادة الإعمار إلى التفكير في أبسط مقومات الحياة.
لكن التساؤلات حول غزة لم تنتهِ عند وقف إطلاق النار. يبقى السؤال الأكبر هو: هل ستواصل «حماس» وغيرها من الفصائل الفلسطينية استغلال القضية الفلسطينية لتحقيق مكاسب سياسية؟ أم أن هذه المرحلة ستشهد ولادة قيادة جديدة تضع مصلحة الشعب الفلسطيني فوق أي أجندات خارجية؟ القضية الفلسطينية، التي طالما استُخدمت كوسيلة للتجاذبات السياسية، قد تكون أمام مفترق طرق تاريخي إذا ما ظهرت قيادة مختلفة تعيد الأمل للشعب الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة تحقق التعايش والعدالة.
في لبنان، لم تكن الأحداث أقل درامية. فمع اشتعال الأوضاع في غزة، انخرط «حزب الله» في مواجهة عسكرية مع إسرائيل على الحدود الجنوبية، مما جر البلاد إلى صراع جديد غير متكافئ. أدت الغارات الإسرائيلية إلى مقتل أكثر من 550 مدنياً، ونزوح آلاف السكان من الجنوب، إضافة إلى دمار كبير في البنية التحتية. لكن الصدمة الأكبر كانت اكتشاف ضعف «حزب الله» في هذه المواجهة، حيث فشل في تحقيق أي مكاسب تذكر، مما جعل اللبنانيين والعالم يعيدون النظر في صورة الحزب كقوة حامية للبنان. الحرب الأخيرة أثرت على صورة «حزب الله»، الذي كان يفرض سيطرته على المشهد السياسي اللبناني لعقود. في ظل هذا الوضع، شهد لبنان تحولاً سياسياً مهماً تمثل في انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيساً للجمهورية، واختيار القاضي والدبلوماسي نواف سلام رئيساً للحكومة اللبنانية.
هذا التغيير، الذي يبدو أنه جزء من ترتيبات إقليمية ودولية، قد يكون بداية لاستعادة لبنان دوره التاريخي كدولة مزدهرة ثقافياً واقتصادياً. مع ذلك، يواجه القادة الجدد تحدياً هائلاً يتمثل في إعادة بناء الدولة، وتحجيم نفوذ «حزب الله»، الذي أصبح عبئاً سياسياً وأمنياً على البلاد. أما في سوريا، فقد شهدت الساحة تحولاً تاريخياً بسقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 بعد سنوات من الحرب الأهلية. سيطرت قوات المعارضة على دمشق، وفرّ الأسد إلى روسيا، مما أنهى حكم عائلته الذي استمر لأكثر من خمسة عقود. التغيير في سوريا جاء بسرعة غير متوقعة، لكنه فتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة بناء الدولة السورية على أسس ديمقراطية.
التحديات في سوريا تبدو هائلة، بدءاً من إعادة إعمار البنية التحتية التي دُمرت بشكل شبه كامل، مروراً بتحقيق المصالحة الوطنية، وصولاً إلى ضمان عودة اللاجئين الذين تجاوز عددهم الملايين. تشير التقديرات إلى أن كلفة إعادة الإعمار قد تصل إلى 400 مليار دولار، مما يتطلب دعماً دولياً واسع النطاق. ومع ذلك، فإن النجاح في سوريا مرهون بقدرة القيادة الجديدة على توحيد الصفوف، وضمان استقلال القرار الوطني عن أي تدخلات خارجية. تشير هذه التغيرات المتسارعة في غزة ولبنان وسوريا إلى أن المنطقة قد تكون على أعتاب خريطة جديدة. في فلسطين، إذا ظهرت قيادة وطنية موحدة تعمل لصالح الشعب الفلسطيني، قد يصبح تحقيق حلم الدولة المستقلة أكثر قرباً.
في لبنان، يُمكن أن تمهد القيادة الجديدة الطريق لاستعادة سيادة الدولة والعودة إلى دور لبنان التقليدي كمركز ثقافي واقتصادي في الشرق الأوسط. أما في سوريا، فإن نجاح القيادة الجديدة في إعادة البناء وتحقيق الاستقرار السياسي قد يعيد البلاد إلى موقعها الطبيعي كقوة إقليمية فاعلة. لكن المستقبل لا يزال يكتنفه الكثير من الغموض.
هل ستظهر قيادات قادرة على استغلال هذه التحولات لصالح شعوبها؟ أم أن المصالح الضيقة والتجاذبات الإقليمية ستُبقي المنطقة في حالة عدم استقرار؟ الأمل معقود على أن تكون هذه التحولات بداية لعصر جديد من التعاون الإقليمي والتنمية، حيث تُصبح مصلحة الشعوب فوق كل اعتبار. الشرق الأوسط بحاجة إلى قيادات شجاعة تقود المنطقة نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً، بعيداً عن الحروب والدمار.
*لواء ركن طيار متقاعد.
إقرأ المزيد