مِن رَوَائِعِ أَبِي الطَّيِّب (48)
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

مَا زِلْنَا نَعْرِضُ أَعْجَازَ أَبْيَاتِ شِعْرٍ لِأَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي، سَارَتْ أَمْثَالًا، فَقَدْ أَقَرَّ المُحِبُّ وَالمُبْغِضُ بِأَنَّ مِنْ مَزَايَا شِعْرِ أَبِي الطَّيِّبِ، إِرْسَالُ المَثَلِ فِي أَنْصَافِ الأَبْيَاتِ...

(136) وَلَا رَأْيَ فِي الْحُبِّ لِلْعَاقِلِ
يَخْتَزِلُ أَبُو الطَّيِّبِ فِي هَذَا الشَّطْرِ حَقِيقَةً عَاطِفِيَّةً تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْعُقُولِ وَتَغْلِبُ الْمَنْطِقَ.
الْحُبُّ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ، لَا يَخْضَعُ لِرَأْيِ الْعَاقِلِ، فَهُوَ انْفِعَالٌ يَسْتَوْلِي عَلَى النَّفْسِ، وَيَقْهَرُ التَّفْكِيرَ الْمُنَظَّمَ.
مَهْمَا بَلَغَ الْإِنْسَانُ مِنْ حِكْمَةٍ وَرَجَاحَةِ عَقْلٍ، يَظَلُّ الْحُبُّ أَمْرًا يَسْتَعْصِي عَلَى التَّحْكُمِ أَوْ التَّرْوِيضِ.
وَكَلِمَةُ «رَأْي» تُشِيرُ إِلَى الْفِكْرِ الْمُنَظَّمِ وَالْحُكْمِ الْمُتَزِنِ، بَيْنَمَا كَلِمَةُ «الْحُبِّ» تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا إِيحَاءَ الْعَاطِفَةِ الْجَيَّاشَةِ الَّتِي لَا تَخْضَعُ لِقَانُوْنٍ.
كَأَنَّمَا يُصَوِّرُ الْمُتَنَبِّي فِيْ شَطْرِهِ هَذَا صِرَاعاً أَزَلِيّاً بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ، يَخْرُجُ الْقَلْبُ مِنْهُ مُنْتَصِراً، مُؤَكِّداً سَيْطَرَةَ الْعَاطِفَةِ عَلَى الْمَنْطِقِ.
شَطْرُ بَيْتِ الْمُتَنَبِّي هَذَا، ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَوَارِزْمِيُّ، فِي كِتَابِهِ «الْأَمْثَالُ الْمَوَلَدَةُ»، فِي إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّهُ صَارَ مَثَلاً يُضْرَبُ فِي تَغَلُّبِ الْحُبِّ عَلَى الْعَقْلِ.
قُلْتُ: كَأَنَّ الْمُتَنَبِّيَ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا وَقَعَ فِي الْحُبِّ، تَخَلَّى عَنْ رَجَاحَةِ عَقْلِهِ، وَحَصَافَةِ رَأْيِهِ، فَالْحُبُّ يَأْخُذُ مِنَ الْمُحِبِّ عَقْلَهُ، وَيُعْطِيهِ قَلْباً ثَانِياً إِضَافَةً إِلَى قَلْبِهِ! وَكَأَنَّهُ يَصْرُخُ فِي جَوَانِحِ الْمُحِبِّينَ، قَائِلاً: مَرْحَى لِلْعَاطِفَةِ... وَدَاعًا لِلْعَقْلِ!
هَذَا التَّعْلِيقُ يَكْشِفُ عَنْ بُعْدٍ جَمَالِيٍّ فِي الشَّطْرِ، فَالْحُبُّ هُنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ إِحْسَاسٍ، بَلْ قُوَّةٌ تُحَوِّلُ الْإِنْسَانَ، وَتُضَاعِفُ قَلْبَهُ، وَتُفْقِدُهُ عَقْلَهُ، فِي آنٍ وَاحِدٍ.
يُقَدِّمُ الْمُتَنَبِّي رُؤْيَةً نَفْسِيَّةً، تُبَيِّنُ كَيْفَ يُغَيِّرُ الْحُبُّ جَوْهَرَ الْإِنْسَانِ، وَيَجْعَلُهُ كَائِناً جَدِيداً. وَمِنْ عَجَائِبِ المُفَارَقَاتِ أَنَّ هَذَا التَّغْيِيرَ هُوَ مِيْزَةُ الحُبِّ، وَهُوَ عَيْبُهُ!
جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ». فَالْحُبُّ يَنْفَرِدُ بِتَغْذِيَتِكَ فِكْرِيّاً وَذَوْقِيّاً، فَيَتَحَكَّمُ بِمَا يَرِدُ عَلَيْكَ، وَضِمْنَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُعْمِيكَ، مُعَطِّلاً كُلَّ صُورَةٍ لَا يَقْبَلُهَا وَيَرْتَضِيهَا وَيَعْتَمِدُهَا، وَهَذَا هُوَ الْعَمَى، وَالشَّيْءُ ذَاتُهُ يَفْعَلُهُ عِنْدَمَا يَجْعَلُكَ فِي صَمَمٍ، إِلَّا عَنْ سَمَاعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْكَارِهِ، وَمَا يَعْتَبِرُهَا هِيَ الْأَشْجَان، دُونَ أَنْ يَعْتَرِفَ بِأَنَّهُ هُوَ السَّجَّانُ!
الْإِيقَاعُ فِي هَذَا الشَّطْرِ يَحْمِلُ نَبْرَةً حَاسِمَةً، فَالْمُتَنَبِّي يُخْبِرُنَا بِحَقِيقَةٍ لَا تَقْبَلُ الْجَدَلَ، مُؤَكِّدًا حَتْمِيَّةَ انْتِصَارِ الْقَلْبِ عَلَى الْعَقْلِ.
وَيَبْدُو أَنَّ أَبَا الطَّيِّبِ، يَرْغَبُ فِي ضَبْطِ مِقْيَاسِ الحُبِّ بَيْنَ شَطْرِ بَيْتِهِ الَّذِي تَحَدَّثْنَا عَنْهُ، وَبَيْنَ بَيْتٍ شِعْرِيٍّ آخَرَ، يَقُولُ فِيهِ:
فَإِنَّ قَلِيلَ الحُبِّ بِالعَقْلِ صَالِحٌ     وَإِنَّ كَثِيرَ الحُبِّ بِالجَهْلِ فَاسِدُ
وَيَمِيلُ الشَّاعِرُ فِي البَيْتِ إِلَى اعْتِبَارِ قَلِيلِ الحُبِّ قَابِلاً لِلْعَمَلِ تَحْتَ مِظَلَّةِ العَقْلِ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ الحُبَّ الْقَلِيلَ لَا يُلْغِي العَقْلَ، كَمَا الحُبُّ بِإِطْلَاقِ الكَلِمَةِ: كَثِيرُ الحُبِّ.
بَيْنَ الحُبِّ الَّذِي لَا رَأْيَ لِلْعَاقِلِ فِيهِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ قَلِيلِ الحُبِّ الصَّالِحِ بِالعَقْلِ، لَا يَبْدُو ثَمَّ تَنَاقُضٌ، بَلْ اخْتِلَافٌ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الوَضْعِ بَيْنَ شَخْصٍ وَآخَرَ، بِحَسَبِ حَجْمِ العَقْلِ، وَسُطْوَةِ القَلْبِ!

(137) فَمِنْ فَرَحِ النَّفْسِ مَا يَقْتُلُ
يُلَخِّصُ الْمُتَنَبِّي فِي هَذَا الشَّطْرِ حَقِيقَةً نَفْسِيَّةً مُذْهِلَةً تَكْشِفُ عَنْ تَنَاقُضِ طَبْعِ الْبَشَرِ.
الْفَرَحُ هُوَ هَدَفُ الْإِنْسَانِ وَمُرَادُهُ وَغَايَتُهُ، لَكِنَّهُ قَدْ يَتَحَوَّلُ إِلَى سَبَبِ هَلَاكِهِ إِذَا تَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمَعْقُولَ.
حَرْفُ الفَاءِ (فَ)، فِي بِدَايَةِ الشَّطْرِ يُعْطِي دَلَالَةً سَبَبِيَّةً، كَأَنَّ الْمُتَنَبِّي يُبَيِّنُ نَتِيجَةً لِحَقِيقَةٍ سَابِقَةٍ، مُؤَكِّدًا أَنَّ الْفَرَحَ الْمُفْرِطَ يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ الْخَطَرَ.
لَفْظَةُ «يَقْتُلُ» تَحْمِلُ إِيحَاءً قَوِيًّا، كَأَنَّ الْفَرَحَ سَيْفٌ شَطِيْرٌ مُصْلَتٌ يَطْعَنُ النَّفْسَ، بِلَذَّةِ الفَرَحِ الْغَامِرَةِ.
قَالَ إِمَامُ الْعَرَبِيَّةِ ابْنُ جِنِّي فِي تَعْلِيْقِهِ عَلَى بَيْتِ هَذَا الشَّطْرِ: «هَذَا كَلَامٌ عَذْبٌ رَائِقٌ».
وَصْفُ ابْنِ جِنِّي يَكْشِفُ عَنْ بَلَاغَةِ الشَّطْرِ، فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ سُهُولَةِ الْلَّفْظِ وَعُمْقِ الْمَعْنَى فِي آنٍ وَاحِدٍ.
«فَرَحُ النَّفْسِ» تُعَبِّرُ عَنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ السَّعَادَةِ، لَكِنَّ «مَا يَقْتُلُ» تُحَوِّلُ هَذِهِ السَّعَادَةَ إِلَى مَأْسَاةٍ مُحْتَمَلَةٍ، فَتُضْفِي عَلَى الشَّطْرِ بُعْدًا تَرَاجِيدِيّاً، وَفِيْمَا يَقْتُلُ مِنَ التَّعَاسَةِ مَا تَنُوْءُ بِهِ الكَلِمَاتُ.
وَالقُدْرَةُ عَلَى التَعْبِيرِ عَن النَقِيضَيْنِ، بِسَلَاسَةٍ وَجَلَاءٍ، تَأْكِيْدٌ عَلَى عُلُوِ كَعْبِ أَبِي الطَّيِّبِ وَبَرَاعَتِهِ. لَقَدْ أَرَادَ، بِنَقْلِنَا مِنَ الضِدِّ إِلَى الضِدِّ، بَيَانَ أَنَّ الفَرَحَ القَاتِلَ هُوَ الذِي يُنَاقِضُ المَنْطِقَ بِتَجَاوُزِهِ حَدَّ المَعْقُولِ، وَالتَنْبِيْهَ إِلَى خَطَرِ الْمُبَالَغَةِ فِي الِانْفِعَالِ، وَلَوْ بِسَبَبِ السَّعَادَةِ الْغَامِرَةِ، الَّتِي يَظُنُّهَا الْإِنْسَانُ مَصْدَرًا للأَمَانِ.
أَوْضَحَ الْحُكَمَاءُ أَنَّ الْفَرَحَ الزَّائِدَ قَدْ يُثِيرُ انْفِعَالاً يَفُوقُ تَحَمُّلَ الْقَلْبِ، فَيُؤَدِّي إِلَى اضْطِرَابٍ جَسَدِيٍّ أَوْ نَفْسِيٍّ يُهَدِّدُ الصِّحَّةَ.
الْإِيقَاعُ فِي هَذَا الشَّطْرِ يَحْمِلُ نَبْرَةً تَحْذِيرِيَّةً، كَأَنَّ الْمُتَنَبِّي يُنَادِي بِالْوَسَطِيَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى فِي أَجْمَلِ لَحَظَاتِ الْحَيَاةِ.
الْفَرَحُ فِي طَبِيعَتِهِ جَمِيلٌ، لَكِنَّ الشَّاعِرَ يُذَكِّرُنَا بأَنَّ لِكُلِّ جَمَالٍ حَدّاً، وَتَجَاوُزُهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى ضَرَرٍ وَخَسَارَةٍ.
دَعْوَةُ الشَّاعِرِ إِلَى التَّوَازُنِ بَيْنَ الْفَرَحِ وَالْحَذَرِ، بَيْنَ الْعَاطِفَةِ وَالْعَقْلِ، لِيَحْيَا الْإِنْسَانُ بِسَلَامٍ، دَعْوَةٌ حَكيمَةٌ جَدِيرَةٌ بِالتَّفْكِيْرِ.
وَفِي البَابِ، قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ:
وَمِنْ فَرَحَاتِ النَّفْسِ مَا فِيهِ حَتْفُهَا     وَمِنْ أُنْسِهَا بِالخَيْرِ مَا هُوَ كَالنَّفْرِ



إقرأ المزيد