جريدة الإتحاد - 7/1/2025 11:49:16 PM - GMT (+4 )

في زمن باتت فيه الحقائق تُنتج أكثر مما تُكتشف، وتُستهلك أكثر مما تُتأمل، يُعيدنا النص القرآني إلى جذر الوعي الإنساني: السير، لا كتنقّل مكاني، بل كرحلة عقلية تُزعزع اليقين الخام، وتستفز الفكر المطمئن إلى مراياه الخاصة. يقول تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا». ليست هذه دعوة جغرافية، بل ميتافيزيقية، تشق الطريق أمام العقل لينظر لا بما ألف، بل بما لم يعهد، لينقض السكونَ لا ليؤسسه، وليجعل من المسافة بين الذات والعالم فرصةً للاختبار لا للاطمئنان الكاذب.
في قلب هذا النداء الكوني، تكمن إشكالية الإدراك: هل نرى ما هو، أم نرى ما نريد أن نراه؟ سؤال يتداخل فيه المعرفي بالروحي، والسلوكي بالمقدّس. إن أحد أخطر أمراض العقل المعاصر، كما تنبّه إليه علم النفس المعرفي، هو «الانحياز التأكيدي»، حيث يغدو الإنسان سجّاناً لفكره، ينتقي من الواقع ما يُعزز قناعاته، ويستبعد كل ما يُزعزع صورتَه عن نفسه أو عن عالمه. هذا المرض، وإن بدا علمياً في توصيفه، فهو في جوهره «غفلة إيمانية»، لأن الإيمان لا يقوم على الإغلاق، بل على الكشف، على يقظة مستمرة تقاوم الميلَ الغريزي نحو الطمأنينة الذهنية.
وفي هذا السياق، يصبح الحياد – الذي يُشاد به كثيراً– مفهوماً غامضاً يتطلّب تحريراً فلسفياً. فالحياد ليس غياب الرأي، بل قدرة على تعليقه ريثما يُختبر، ليس تسويةً بين المتناقضات، بل شجاعة المقامرة باليقين في سوق الأسئلة. الحياد هو أن تقرأ المخالف لا لتُدينه، بل لتختبر صدقك. هو أن تُصغي للآخر لا لتفكك منطقه، بل لتُعيد بناء منطقك. ولذا فإن العقل القرآني ليس محايداً بمعنى السكون، بل منفتح بمعنى الحركة الدائمة، هو عقل يتعبد بالأسئلة، ولا يكتفي بالإجابات. ومن هنا كانت الأسئلة في القرآن ليست استنكارية فحسب، بل تكوينية: «أَفَلَا تَعْقِلُونَ»، «أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ»، «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ».
الفكر الديني – حين يُفهم بعمقه المقاصدي – لا يخشى الآخر، بل يعتبره ضرورةً للوعي. فاختلاف الآخر ليس شبهة، بل أداةَ امتحان، تضعنا أمام مرآة ذواتنا. وبهذا المعنى، لا يُعد الانفتاح على المختلف خيانةً للهوية، بل ممارسةً عميقةً لها، لأن الهوية لا تُستعاد إلا حين تُختبر. كل تديّن منغلق هو في حقيقته تديّن خائف، يهرب من نفسه بالتحصّن ضد الآخر. أما التدين الواثق، فهو الذي يتحاور، لأن الحوار ليس ضعفاً، بل طمأنينة العقل الذي لا يخشى السؤال.
والرؤية التي يدعو إليها القرآن ليست رؤية حسية فقط، بل رؤية معرفية إيمانية، أي أنها لا تقتصر على ما يُرى بالعين، بل تتسع لما يُدرك بالبصيرة. ولذا لا يكفي أن نسير، بل لا بد أن «ننظر»، ولا يكفي أن نرى، بل يجب أن نتفكر. لأن ما لا يُتأمل يتحول إلى عادة، وما يغيب عنه الوعي يتحول إلى عُرف يزيف الحقيقةَ. والعرف – مهما علا– ليس معياراً للحق، بل غالباً ما يكون مصيدةً للعقل الكسول.
والإيمان نفسه، في القرآن، لا يُمنح لمن سلّم دون وعي، بل لمَن مشى وسأل، تأمل وجادل.. أي خرج من ضيق النفس إلى سَعة الحق. ولذلك ارتبطت البركة بالفعل العقلي والانفتاح: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ». فالبركة لا تأتي مع الجمود، بل مع الحركة، ومع الخروج من بيئة العادة إلى فضاء التأمل. ومن هنا، يُفهم العقل الديني كقوة محركة، لا كأداة تبريرية. هو العقل الذي يقبل بإعادة النظر، لا العقل الذي يحرس التقليد.
وأخيراً، فإن كمال الإنسان لا يتحقق حين يظن أنه وصل، بل حين يدرك أن السير واجب لا ينتهي.. والرؤية الحقيقية لا تتجلى في ثبات المواقف، بل في دينامية الاختبار. وإن أعظم يقين هو الذي لا يخشى أن يُمتحن، وأعظم عقل هو الذي يقف أمام ذاته ناقداً لا مقلداً. هكذا يكون العقل في ضوء الهداية القرآنية: عينٌ ترى ما لم تعتده، وضمير لا يرضى بأقل من الحقيقة، وإن خالفته.. فهل نحن على استعداد لنخلع مرآتنا؟
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
إقرأ المزيد