جريدة الإتحاد - 7/1/2025 11:49:20 PM - GMT (+4 )

أعطى العِلم لتقنيات الحرب أكثر مما أعطى لتقنيات الرَّفاهية؛ فالشّرّ والخير لا يتساويان في النتائج. أباد اختراع الدِّيناميت، عندما دخل الحروب، مِن الحياة أكثر مِن الطُّرق التي شقها، ولم تكفِ جائزة «نوبل» تخفيفاً للأضرار التي أسفر عنها؛ لأنَّ الأمر لم يكن بيد العلماء، ولا الحكماء الفلاسفة، الذين أرادهم أفلاطون(قبل الميلاد)، في جمهوريته حكاماً، وبعده أبو نصر الفارابي(تـ: 339هج) في مدينته الفاضلة.
عودة على بدء، تنقرض مع أسلحة الدَّمار الشَّامل الحياة؛ أدواتها تجاوزت السُّيوف والرِّماح، والأحجار التي ترمى بالمنجنيقات، أسلاف المنصات العملاقة، المزودة بالمتفجرات الهائلة، التي تمحو النَّهار بإطفاء الشّمس. اختلفت أسلحة الدَّمار الشَّامل، حسب الأزمنة، ومعناها باختصار تحرق الأخضر واليابس. بل عند الحروب الصَّغيرة، بين معارضة وسُلطة مثلاً، أفتى فقهاؤها بجواز رمي السّموم في الأنهار والآبار، فيموت الجنود والفلاحون والأسماك، وصاحبها يبررها، ما زال فيها انتصار «المؤمنين» حسب عبارته، وجواز تفجير القطارات بما تحمله مِن أطفال ونساء؛ وعند الاضطرار جواز أكل لحوم المخالفين(احتفظ بكتب هؤلاء).
لكنَّ وجدتُ فناً قديماً في أسلحة الدَّمار الشّامل، تجاوز فتاوى هؤلاء، أنَّ أحدهم اقترح على قائده لاقتحام مدينة «نصيبين» العصية، بتوجيه مفارزَ تجمع العقارب مِن «شهزور»(كركوك اليوم)، فكانت مشهورة بها، وتُملأ بها جرار مع التراب، توضع في المنجنيقات، وترمى في وسط المدينة، فتقتل سمومها مَن تقتل، ويفرّ منها مَن يفر، وينشغل مَن ينشغل بتعقبها لقتلها، فيتم الاقتحام؛ وبالفعل حسب الرواية تم ذلك بنجاح(ابن أعثم، فتوح البلدان)؛ لكن للانتصار السَّريع ثمنه، فالعقارب لا تترك المنتصرين يهنؤون.
كتب الأديب السُّعوديّ ميرزا الخويلدي، في «الشّرق الأوسط»(الأربعاء 2025/6/25): «الحرب بين جاسم الصَّحيِّح وبريخت»، عن أماني الشّعراء في السّلم، وملامستهم لشرور الحرب على الحياة؛ والشّاعران عربيّ وأوروبيّ، ولكلّ منهما زمنه. وجدتُ مَن اعترض، في مكالمة معي، على الخويلدي، بعد إرسال المقال إليه لإعجابي به، ترك المعترض قضية السّلم والحرب، مهتماً كيف يضع الخويلديّ شاعره المشرقي الجزيري مع شاعر أوروبا الألماني بريخت؟! غير أنَّ الشّاعر المطبوع، إنّ كان شمالياً أو جنوبياً، واحداً في جوهر نصه عن الواقع، مع اختلاف لغته وقوام قصيدته، فـ «فضاعات» الحروب لا تختلف. فما قاله جاسم الصّحيّح تعبيراً عن ألم دفين على العمران؛ وأماني شعبه في المستقبل، و«الحرب حين تجيء/ تمحو الفرق ما بين السّنابل والقنابل/ والحرب حين تضيء/ تطفي شعلة الأحلام في دمنا/ وأحلام المشاعل...». قابل ذلك الكاتب بنص بريخت(1938) الذي كان قلقاً على ألمانيا وفلسفتها مِن تهور زعيمها: «يا جنرال دبابتك آلة جبارة/ تسحق الغابات...»؛ فالتعبير هو هو بحكم الأمنيات، والمعاناة واحدة. كانت وما تزال دواوين الشّعراء ملأى بقصائد السَّلام؛ والتحذير مِن الحروب؛ لكن إنَّ شرقوا وغربوا، وأجادوا القريض أو الحر أو المنثور، لم يتقدم أحدهم على «ميمية» زُهير بن أبي سُلمى(قبل الهجرة)، في محاولة درئه للحرب، وكانت بالأيدي، قبل اختراع المنجنيق، وظهور أفكار الموت الشّامل، تقليداً للطواعين وعظائم الأوبئة، وقبل استخدام الدّين فيها لتبرير فضاعاتها، وقد ورث في المكان جيل جاسم الصَّحيّح زهيراً؛ وهذا كان ردي على مَن انتقد الخويلدي، كونه قرن جاسماً ببريخت. مما قاله ابن أبي سُلمى في الحرب، التي لم تتعد أسلحتها السّيوف والرّماح، غير أنْه ذمها كأنها جرت بسموم العقارب وأسلحة اليوم: «فَتَعْرُكُكُم عرْكَ الرَّحى بثِفالها/ وَتَلْقَحْ كِشافًا ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ/ فَتُنْتِج لَكُمْ غلْمانَ أشأمَ كلّهمْ/ كَأَحْمَرِ عادٍ ثُمّ تُرضِع فَتَفْطِمِ»(الزَّوزنيّ، شرح المعلقات السَّبع)؛ وتعرفون كيف تعمل الرّحى الطَّحين، وكم مِن ميليشيا وجماعة مسلحة، أشأم مِن «أحمر عاد» (عاقر ناقة صالح)، فرضتها الحروب علينا. هذا، وحصل استخدام العقارب في الحرب قبل سبعة وعشرين وأربعمئة وألف مِن السِّنين، ولكم حِساب تطور أدوات الموت بعد ألف عام ويزيد.
*كاتب عراقي
إقرأ المزيد