لبنان .. بين الدولة المختطفة وسلاح الفصيل
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

 لبنان اليوم ليس بخير، ليس لأن الأزمة وليدة اللحظة، بل لأن جراحه القديمة تتجدد كلما أوشكت أن تلتئم، بفعل لاعب واحد يتقن فن المماطلة، ويجيد تعطيل الدولة كلما قررت النهوض من تحت الركام. «حزب الله»، وكعادته، يفرض معادلاته الخاصة، خارج نطاق الدستور والقانون والمؤسسات، ويضع الدولة أمام خيارين: إما القبول بالأمر الواقع، أو المجازفة بمواجهة مفتوحة لا تملك أدواتها.

رئيس الحكومة الجديد، نواف سلام، حاول منذ اليوم الأول أن يعيد للدولة هيبتها، وأن يسترجع القرار المصيري المتعلق بالحرب والسلم من قبضة «حزب الله». قالها صراحة: لا يمكن لأي دولة أن تنهض بينما قرار السلاح بيد فصيل لا يخضع للدولة. وقالها أيضاً بمرونة سياسية: نريد الحوار، لا الصدام. نريد أن يكون الجيش هو المرجع، لا السلاح العابر للحدود. لكن بين النوايا الطيبة والواقع المعقّد، هناك حزب يمسك بزمام القرار، ويقايض الوطن كله بورقة واحدة: سلاحه.
في المقابل، الحزب لا ينكر تمسكه بالسلاح، بل يعلنه. أمين عام الحزب نعيم قاسم صرّح مؤخراً بأن سلاح المقاومة باقٍ، وأنه لن يُسلّم إلا بعد زوال الاحتلال الإسرائيلي الكامل من الجنوب وبعد توقف العدوان. لكن هذه الشروط، في جوهرها، ليست إلا وصفة لبقاء دائم لسلاح دائم، تحت عنوان «ظروف غير مكتملة». وكأن الدولة يجب أن تظل رهينة حتى إشعار آخر.
الأزمة الحقيقية في لبنان اليوم ليست اقتصادية فقط، ولا سياسية فقط، بل هي أزمة سيادة. فالدولة، بكل مؤسساتها، لا تستطيع أن تمارس كامل صلاحياتها، ولا أن ترسم سياساتها بحرّية، ولا أن تطمئن إلى أن قرار الحرب لا يُتخذ في غرفة مغلقة بعيداً عن رئاسة الحكومة، وعن وزارة الدفاع، وعن البرلمان.
التطور الأخير تمثّل في مبادرة أميركية عبر المبعوث آموس هوكستين، الذي قدّم خريطة طريق واقعية تقوم على انسحاب إسرائيلي من بعض النقاط الحدودية، مقابل التزامات لبنانية بنزع السلاح الثقيل من «حزب الله»، وتمكين الجيش من بسط سلطته على كامل الجنوب. الحكومة اللبنانية، التي تتعرض لضغوط دولية وعربية، أعدّت ردّاً من سبع صفحات، يؤكد نيتها استرجاع القرار السيادي، مع الحفاظ على السلم الأهلي.
لكن «حزب الله»، رغم تراجع وتيرته العسكرية في الجنوب، لا يزال يناور سياسياً. يرفض مبدأ تسليم السلاح، ويتمسك بـ «معادلة الردع»، ويطالب بضمانات لا يمكن تحقيقها في الوقت الراهن، وهو يعلم أن الدولة لا تملك ترف الانتظار. فكل يوم تأخير، يُفقد الدولة فرصة نهوض جديدة، ويُبقي الخوف مسيطراً على الداخل، والاستثمار غائباً، والثقة شبه معدومة.
وليس سراً أن الحزب يستخدم نفوذه داخل مؤسسات الدولة لعرقلة أي مبادرة لا تُناسبه. فحتى بعد تشكيل الحكومة الجديدة، بدأت تظهر مؤشرات العرقلة، سواء في ملف التعيينات، أو في مقاربة العلاقات مع الدول العربية، أو حتى في التعامل مع العقوبات الدولية المفروضة على بعض قياداته.
المعادلة واضحة: الحزب لا يريد أن يفقد سلاحه، لأنه يدرك أن فقدان السلاح يعني فقدان النفوذ. والدولة تريد استرجاع قرارها، لأنها تعرف أن بقاء السلاح يعني بقاء الأزمة. وبين الطرفين، يقف الشعب اللبناني، كضحية دائمة، يدفع الثمن من قوته وأمنه وحياته، دون أن يملك القدرة على تغيير المعادلة.
السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه اليوم: إلى متى يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ وهل تملك الدولة الإرادة الفعلية لتطبيق الرد اللبناني الذي أُرسل إلى الوسيط الأميركي؟ وهل لدى «حزب الله» النية الحقيقية لمراجعة موقعه داخل الدولة، لا فوقها؟
الزمن وحده كفيل بالإجابة. لكن ما هو مؤكد، أن لبنان لن يخرج من أزمته إلا إذا استعاد حقه الطبيعي في أن يكون هو صاحب القرار، وأن تتحرر مؤسساته من قبضة أي فصيل، مهما كان تاريخه أو قوته. فالأوطان لا تُبنى على سلاح موازٍ، ولا تُدار عبر ازدواجية القرار، ولا تُحكم بمنطق الحزب الواحد.
لبنان يستحق أن يعود دولة كاملة، لا نصف دولة. وشعبه يستحق أن يعيش في ظل دولة قانون، لا دولة صفقات. أما «حزب الله،» فإن أمامه فرصة تاريخية: إما أن يندمج في الدولة، ويعيد قراءة دوره بعين وطنية خالصة، أو أن يستمر في دور المعطل… وعندها، لن يطول الوقت حتى يصبح هو نفسه عبئاً حتى على جمهوره.

*لواء ركن طيار متقاعد. 



إقرأ المزيد