جريدة الإتحاد - 7/8/2025 12:22:20 AM - GMT (+4 )

- الجنون هروب بالوحدة، والوحدة هروب من الواقع، هل يمكن أن يجنّ الإنسان إن كان وحده، وعاش في وحدته؟ تلك المعضلة طالما شغلت الفلاسفة والكتّاب والفنانين؛ لذا ظهرت تلك العبارة، الوحدة قاتلة!
- طرأت تلك الفكرة بينما كنت أراقب شخصاً من بعيد وطوال شهر تقريباً في مدينة ألمانية فيها كل عافية الحياة ورونقها، ومكتوب على بوابتها الكبيرة، لا مكان لمن لا يعرف الفرح، فتعجبت من تواجده فيها، وهو الخالي من البسمة والفرحة والألفة، حيث لا أرى من يسامره أو يؤانسه أو يلقي عليه التحية، لأنه لا يلقي التحية على أحد، يجلس متوحداً في المكان، ولا أحد معه غير قطعة هاتف قديم، لا أعتقد أنه يصلح لشيء غير الإرسال واستقبال المكالمات، ورغم ذلك يقيني أن قائمة الأسماء في ذلك الهاتف قديمة أو لا أحد في نظره يستحق المهاتفة.
- هل يمكن أن يصاب الإنسان بالجنون إذا عاش في عزلة؟ هذا التساؤل الفلسفي العميق، يغوص في أعماق الوجود البشري وتأثير العزلة على العقل، لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، وقد ترك العزلة بالتدرج في الاستقرار والتمدن، وقد أظهرت الدراسات الإنسانية عبر التاريخ أن التفاعل الاجتماعي والتكيف الاجتماعي يلعبان دوراً محورياً في تعزيز الصحة النفسية للفرد والرفاهية العامة للمجتمع.
- عندما يُفصل الفرد عن المجتمع، يُحرم من التجارب الحياتية التي تشكّل هويته وتمنحه شعور الانتماء. إن العزلة يمكن أن تؤدي إلى فقدان الهوية، حيث يصبح الشخص رهينة لأفكاره الداخلية، والتي قد تتحول إلى دوامة من الشكوك والقلق. هل من الممكن أن يتحول هذا الشعور بالعزلة إلى حالة من الجنون؟ من منظور فلسفي، يمكن اعتبار الجنون نوعاً من الانفصال عن الواقع، نتيجة لفقدان الروابط الإنسانية، وبدون الحوار والتواصل، تصبح الأفكار غير متوازنة، وتبدأ الذات في التحلل أمام وحشة الوحدة. هنا، تطرح الفلسفة سؤالاً: هل الجنون هو نتيجة للعزلة أم أن العزلة تكشف عن جنون كان كامناً في الذات؟
- إن العزلة ليست مجرد غياب الآخرين، بل هي تجربة عميقة تتطلب الشجاعة لمواجهة الذات. في النهاية، قد تكون الإجابة عن هذا التساؤل معقدة، لكن ما يبقى واضحاً هو أن الإنسان يسعى دوماً للاتصال، وأن غياب هذا الاتصال قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على العقل والمشاعر.
- وهناك العديد من الشواهد من الحياة والأدب التي تدعم فكرة أن العزلة قد تؤدي إلى الجنون أو التأثير السلبي على النفس، نستعرض بعض هذه الشواهد: مثل حالة الفنان الهولندي «فنسنت فان غوخ» الذي عاش فترات طويلة من العزلة، مما أثر على صحته النفسية وجعله عرضة للاكتئاب، والضرر بجسده حين قطع أذنه، ولا يمكن التكهن لو تطورت عنده الحالة، ربما جدع أنفه أو بتر إصبعه!
- في الأدب العالمي لدينا نماذج تناولها، وهي تتحدث عن جوانب خفية من حياة الإنسان، مثل رواية «الأخوة كارامازوف» لـ«ديستويفسكي» التي تتناول تأثير العزلة على النفس البشرية، وكيف يمكن أن تؤدي الأفكار المظلمة إلى الجنون عندما يُترك الفرد مع ذاته فقط، و«غريب في البلاد» لـ«كيركغارد»، يتناول هذا الكتاب كيف أن العزلة الفكرية تؤدي إلى صراع داخلي، حيث يشعر الفرد بأنه منفصل عن المجتمع وعليه مواجهة أسئلته الوجودية بمفرده، وكذلك «العزلة» لـ«هنري ميلر» الذي يؤكد أن العزلة مصدر إلهام، لكن على الإنسان خلق ذاك التوازن بين العزلة والتواصل مع الآخر.
إقرأ المزيد