جريدة الإتحاد - 7/8/2025 12:44:10 AM - GMT (+4 )

تناولتُ في المقالة الماضية معضلة تقييم نتائج الحروب، التي لا يتلقى أحد أطرافها هزيمة ساحقة، أو يستسلم استسلاماً كاملاً، لأنه ما لم يحدث هذا، فإن كل طرف بمقدوره أن يدعي الانتصار، وتتعقد المسألة أكثر بأقصى تعتيم ممكن يقوم به طرفا الحرب على خسائرهما، وبالتالي فإن المسارعة بإصدار أحكام قاطعة على نتائج هذه الحروب أمر يفتقر إلى العلمية، ويعني هذا أن تقييم نتائج الحروب بدقة عمل متأنٍ يحتاج إلى وقت، وهنا يكون المتغير الزمني مهماً في هذا التقييم.
غير أن المتغير الزمني يكتسب أهمية أكبر بالتأكيد من منظور المدى الطويل، ويثير هذا قضايا أكثر تعقيداً، وبالذات في تلك الحروب التي تنتهي بنتائج شديدة الوضوح لصالح أحد طرفيها، ذلك أنه من المنطقي ألا يرضى الطرف المهزوم بهذه النتائج، ويعمل على تغيير موازين القوى التي أفضت إليها، خاصة إذا تأثرت التسويات التي تعقب نهاية الحرب بهذه النتائج بشدة، وانطوت على ترتيبات مهينة ومذلة للمهزوم.
ولنا في تسويات الحرب العالمية الأولى، التي كانت ألمانيا إحدى الدول المهزومة فيها خير مثال، فقد فرضت هذه التسويات على ألمانيا تنازلات إقليمية عديدة، وتقاسم المنتصرون مستعمراتها، وتضمنت قيوداً بالغة الصرامة على الآلة العسكرية الألمانية، لمنع الألمان من إشعال حرب ثانية، فضلًا عن دفع تعويضات باهظة لبعض البلدان، وأدى هذا كله إلى شعور بالإذلال لدى الشعب الألماني، واعتبره كثير من المحللين العامل الرئيسي لصعود هتلر مستشاراً لألمانيا في 1933، ثم انفراده بالسلطة بعد وفاة الرئيس الألماني هيندنبورج في أغسطس 1934، وتم تحدي تسويات الحرب الأولى تماماً، وإعادة بناء القوة العسكرية الألمانية لتستعيد مكانتها العالمية، على النحو الذي فجّر الحرب العالمية الثانية التي شهدت أهوالاً لا تُقارن بسابقتها.
وليست ألمانيا ما بعد الحرب الأولى هي المثال الوحيد، ففي هذه الحرب نفسها وقع لينين زعيم الثورة البلشفية في روسيا معاهدة برست ليتوفسك مع ألمانيا قبل هزيمتها، والتي كان يعتبرها أسوأ معاهدة ممكنة، لكنها الطريق الوحيد لبناء روسيا من الداخل، وقد فعلها رغم معارضة رفيقه تروتسكي الذي كان ينادي بمبدأ الثورة العالمية، وأكمل خليفته ستالين المهمة، وحاول تفادي الحرب بتوقيع معاهدة عدم اعتداء 1939 مع هتلر، الذي انتهكها في1941، فكانت بداية نهايته، إذ على الرغم من انتصاراته الأولية فإن الاتحاد السوفييتي حول هزائمه إلى انتصارات جعلته لا يدحر الغزو النازي فحسب، وإنما يضطلع بمهمة تحرير أوروبا الشرقية بأكملها، ويخرج من الحرب قوة عظمى في مثالٍ ثانٍ شديد الوضوح على عدم علمية إصدار أحكام متسرعة على نتائج الحروب، بل إنه من الممكن الاستشهاد بمثال ثالث في هذا الصدد، يرتبط بالهزيمة الأميركية في فيتنام في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، حيث تصور البعض بعدها أن القوة الأميركية في طريقها للانحدار لحساب الاتحاد السوفييتي والصين اللذين كانا يساندان الفيت كونج وفيتنام الشمالية ضد الولايات المتحدة فإذا باستدارة كاملة تفضي لتفكك الاتحاد السوفييتي في1991 وهزيمته الكاملة في الحرب الباردة، ولا يمضي سوى عقد حتى يصعد بوتين للسلطة في روسيا شبه المنهارة، ليعيد تأسيس مكانتها من جديد كقوة عالمية، والدرس الواضح أنه لا شيء ساكناً في التفاعلات الدولية وغيرها، وأن من يفترض السكون يبني قراراته على حسابات خاطئة.
*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة.
إقرأ المزيد