جريدة الإتحاد - 8/13/2025 12:39:21 AM - GMT (+4 )

منذ صغرنا، ونحن نعرف حكاية الأرنب والسلحفاة أو «الزلحفاة» كما يلفظها البعض في عاميتنا، ونعرف عبارة «من جد وجد، ومن سار على الدرب وصل»، و«لا تؤجل عمل اليوم للغد»، وكان الكثير منا يميل للأرنب في داخله، للخفة، والركض السريع، والجمال، ومحبته للجزر، ويعد السلحفاة حيواناً عجوزاً، ومملاً، ويعيش على هامش الحياة، رغم أنها من أقدم المخلوقات على وجه الأرض، لكن مع الكبر، والإدراك، نتحول للسلحفاة، مقدرين فيها الحكمة، والتأني، والجلد على الحياة، وأنها رمز الخصوبة والتفاؤل، منصرفين عن الأرنب الذي لا يجيد إلا الهرب، والحفر تحت جدران البيوت.
السلحفاة لا نحبها إلا في الكبر، ويتلاءم إيقاع حياتنا مع إيقاعها الرتيب والصبور، لقد رأيت أنواعاً من السلاحف في جميع مناطق العالم، وتكاد تكون متشابهة، حيث يوجد منها ثمانية أنواع، من البرية والمائية، طول بعضها يبلغ مترين، ويصل لخمسة أمتار تقريباً، وأوزانها تتراوح بين 450 و950 كيلوغراماً، لكن العمر الطويل وحده يميزها، ويمكن أن يمنحها شكلاً مختلفاً، بحيث تتحجر، وتصبح من الدهريات، ويختلط شكلها ولونها وترسها «الدرقة الصلبة» بتراب الأرض، فتشعر حينها أنها من بقايا الديناصورات المنقرضة، ويعرف عمر السلاحف من حلقات ترسها الذي ينمو مع السنين من أضلعها، كما يعرف عمر الشجرة من الدوائر في جذعها.
أكبر سلحفاة معمرة على قيد الحياة هي«جوناثان»، وهي سلحفاة سيشل العملاقة، ويبلغ عمرها 192 عاماً، أما السلحفاة المعمرة الأكبر فهي «تومي» في زيمبابوي والتي تزن 500 كيلوغرام، ويقدر عمرها بـ 300 سنة، وتأكل 20 كيلوغراماً من الخضراوات يومياً، وقد جلبت من جزر أميركا اللاتينية في الستينيات. وقد مرّ عليّ، ورأيت سلحفاة يباع لحمها للأكل فكرهت ذلك، لأني شعرت حينها وكأنني أتلذذ بلحم جدتي! وتجد عندنا السلحفاة المائية التي تسمى «الأطوم» بالفصحى، ونسميها بالعامية «الحمسه»، يتلذذ البعض بأكلها، وهذا أمر لم أقبله، وعافته نفسي منذ الصغر، ورأيت سلحفاة يشرب دمها، وخاصة من قبل النساء، طلباً للذرية، فكرهت ذلك، وكرهت طريقة جرحها في عنقها وملء فناجين من دمها، وقد باعني أحد تجار السبح سبحة مصنوعة من ترس السلحفاة، وقال لي: هذه نادرة، فاقتنيتها على مضض.
وقبل سنوات سمعت نبأ نعي سلحفاة الملك فاروق، والتي ماتت عن عمر ناهز 270 سنة، مرّ عليها ملوك، وخديويات، وباشوات، وهوانم، وأفنديات، وثوار وطنيون، عرفت العيش في القصور والسرايا حتى جاءت ثورة الضباط الأحرار، وتحولت المحروسة لجمهورية، وأقر التأميم، والإصلاح الزراعي، وإلغاء الألقاب، فأحيلت أو تكهنت سلحفاة الملك فاروق، مثلما يقال للسفن المحالة للمعاش أو التقاعد، إلى حديقة الحيوانات في الجيزة لتقبع طيلة عمرها الممتد لعشرات الأجيال.
تعد السلحفاة من جالبات الحظ والثروة، والفأل الحسن في كثير من الثقافات، كما هو الأمر عند الصينيين، وهي تتنبأ بالطقس، خاصة دخول الشتاء. ما تحسد عليه السلحفاة عمرها المديد، والذي يتمناه الكثير من البشر، ويسعون إليه منذ القدم بحثاً عن عشبة الخلود، كما فعل «جلجامش» في أساطير بلاد الرافدين، لكنه في حقيقة الأمر لو فكر الإنسان عميقاً، وأزاح عنه غشاوة «لو يعمر أحدهم ألف سنة»، فسيجد قول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى: «ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم»، هو الأمثل، فالعمر بلا أصدقاء، وبلا تواصل مع الأجيال، وبتلك الوحدة القاسية مع النفس، يغدو صراعاً مع الدهر! وحدها السلحفاة من عدت طول السنين صلادة في الظهر، ومعنى للصبر.. وهي من قالت: إن مع الدهر حكمة!
إقرأ المزيد