البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من وقائع معروفة في التّاريخ، حيث واقعة «الجمل» (36هج)، ولربما بالانتصار العلويّ، في الواقعة المذكورة، سُجلت علويةً. لكن كم مكان نزله علي بن أبي طالب؟ فهل الأمكنة كافة، التي نزلها، أو مرَّ بها، تصبح مقدسة، ويمنع فيها الغناء؟ على ما يبدو لا صلة للعلويَّة بتظاهرة تحريم الغناء، إنما يراد لها أن تكون مدينة دينية لأغراض شتّى، أما الغناء فتحريمه مُختلَف عليه بين رجال المذهب الواحد، ناهيك عن اختلاف المذاهب فيه.
لا تحتاج البصرة منع الغناء، وقد برز قديماً بها أساطين في الغناء العراقيّ، مثلما ظهرت بها المذاهب الفكرية والكلاميَّة واللُّغوية، وإذا كان لأبي نواس (196هج) ما يُغنّى، أو يُحرم تداوله، فهو الذي نشأ بها وتعلّم، فأمّه منها. قال عبدالله بن المعتز(296هج) في «طبقات الشّعراء» عن أبي نواس والبصرة: «وقد تأدّب بالبصرة، وهي يومئذ أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً، وكان أحفظ لأشعار القدماء والمخضرمين، وأوائل الإسلاميين والمحدثين».
لا نعتقد أنّ البصرة ينقصها تحريم الغناء، في تظاهرة جمهور رجال الدِّين، مثلما هي بحاجة إلى تظاهرة لتوفير الماء الزُّلال وقد شحّ منها، وكانت أمُّ الماء ومِن أكثر أرض الله في عدد الأنُهر، والماء كان يأتيها عذباً من البطيحة، وليس أشهر بالمنطقة مِن شّطها «شط العرب».
أما النَّخيل فقصته قصة، بتراجع أعداده، وكأن البَصْرة لم تكن أم النَّخيل في الماضي القريب، فقد تنازل عدد النَّخيل بالعراق عامة إلى مستوى خطير، بعد آلاف مِن السنين امتدت في طينته جذوره، فتشابكت وصارت كتلة منها، ما أن تذوي نخلة إلا وغرست محلها فسيلة.
ولأن البصرة أرض النَّخيل، روى عن هارون الرشيد(193 هج) أنه قال: «كلّ ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة» (السجستاني، كتاب النخل)، حتى عبثت الحرب برؤوسها وجذوعها. يتطلع العراقيون إلى مبادرة لعودة البصرة بلدةً للنخيل، فـ «نخل البصرة أظنه مثل نخل الدنيا مراراً» (كتاب النخل). ولا عجب في أنَّ مؤلفي كتب النخل التاريخية هم بصريون، مثل الأصمعي وأبي حاتم السجستاني.
كانت النخلة بالعراق سيدة الشَّجر، والبرج الشاخص في ترابه، تختفي تحت ظلالها القصور، رغم هول الدمار الذي عصف بغاباتها. فعلاقة هذه الشجرة بالمكان علاقة قرون لا أعوام ومواسم، مَنْ يزرعها في الغربة تكون الغربة له وطناً، فتحت سعفاتها تستقر الحياة نباتاً وحيواناً وإنساناً، وليس هناك ما يذكر الأحفاد بالأجداد أكثر من النخلة. فزارع النخيل ذو نفس سمحاء بعيد النظر، لا ينتظر ثمراً يُصيب أو ظلاً يستظل، فهو يكدح للآخرين، لا ينتظر غير الذكرى.
النخلة شجرة طلب غرسها يستحق تظاهرة رجال الدين، وليتهم تظاهروا مِن أجلها، وهو يحملون السَّعفات، ومِن أجل الماء يحملون صورة «الإناء الفوار» (دجلة والفرات) السومريّ، ولا نظنه كان صنماً يُحرم حمله.
النخلة ليست كباقي الشَّجر، قامة وثمراً وظلاً، وفائدة الإنسان من جذرها حتى أدق سعفة في رأسها، ثمرتها صالحة لكل الفصول، في الصيف رطباً وفي باقي الفصول تمراً ودبساً «تؤتي أُكلها كل حين بأذن ربِّها»(عن كتاب النخل).
أختم بما ودع به أبو العلاء المعري (449 هج) العراق، وهو الأعمى، ولم يبصر غير موجات مائه وظل نخيله، فقال:
شربنا ماء دجلة خير ماءٍ
وزرنا سيدَ الشجرِ النَّخيلا
إنَّ الغناء البصريّ يا سادة هو انعكاس للماء والنَّخل، وكل بيئة تُظهر غناءها مِن أصوات مفرداتها، وأي بيئة خلت مِن الغناء والموسيقى، ولم يكتب «إخوان الصَّفا» (ق العاشر ميلاديّ) رسالتهم «الموسيقى» وهي كبرى رسائلهم إلا بالبصرة.

*كاتب عراقي



إقرأ المزيد