جريدة الإتحاد - 12/16/2025 11:49:40 PM - GMT (+4 )
في كلّ منعطفٍ دمويٍّ تشهده القضيّة الفلسطينيّة، يعود سؤال العنف إلى الواجهة، لا بوصفه أداة مقاومة فحسب، بل بوصفه معياراً أخلاقياً وسياسياً يكشف عمق الوعي أو ضحالة الانفعال. وما أُفيد به من اعتداءٍ دمويٍّ استهدف تجمّعاً احتفالياً ليهودٍ في أستراليا، إن صحّ، يفرض نقاشاً هادئاً صارماً، لا يُدار بلغة التبرير الغريزي، ولا بمنطق الإدانة الانتقائيّة، بل بمنهجٍ يستند إلى التراث الأخلاقي الإنساني، وإلى الخبرة التاريخيّة في الصراع العربي الإسرائيلي.
لا جدال في أنّ الغضب العالمي المتراكم تجاه إسرائيل غضبٌ مفهوم، بل مبرَّر، أمام مشاهد الإبادة والتجويع والتهجير في فلسطين، وامتداد العدوان إلى لبنان وسوريا، وامتهان القيم التي ادّعى الغرب طويلاً أنّها كونيّة. غير أنّ الفهم شيء، والتسويغ شيء آخر. فالقتل العشوائي، أيّاً كان دافعه، يدخل في منطق الفوضى الأخلاقيّة التي تُساوي بين الجلّاد والضحيّة من حيث الأثر، وإن اختلفت النيّات.
والتراث الإنساني، قبل الديني، أقام تمييزاً حاسماً بين المقاتل وغير المقاتل. وهذا التمييز لم يكن تفصيلاً فقهياً أو قانونياً، بل كان حجر الزاوية في فكرة العدالة نفسها. فقتل من لا يحمل السلاح، ولو كان عدواً في الانتماء السياسي، جريمة لا تستقيم مع أيّ منظومة أخلاقيّة متماسكة. إنّ تحويل الانتماء الديني إلى موجِبٍ للعقاب الجماعي يُعيد إنتاجَ منطق الإبادة الذي يُدان حين تمارسه إسرائيل، ويُفرغ الإدانةَ من مضمونها حين يُستنسخ ضدّ مدنيّين لا دور لهم في آلة القتل.
لقد شكّل التفريق بين الصهيونيّة كحركة استعمارية استيطانية، واليهوديّة كديانة وتاريخ وثقافة، أحد أعمدة الخطاب الفلسطيني والعربي العقلاني منذ عقود. ولم يكن هذا التفريق تزييناً لغوياً ولا مجاملةً أخلاقيّة، بل خياراً استراتيجياً حافظ على عدالة القضيّة، ومنع انزلاقها إلى صراعٍ دينيٍّ شامل يخدم المشروع الصهيوني أكثر مما يضرّه. وقد أثبت الواقعُ المعاصرُ صحّةَ هذا الخيار، حين خرج يهود، أفراداً وجماعات، في عواصم العالم، يندّدون صراحة بجرائم إسرائيل، ويكسرون احتكار الصهيونيّة للحديث باسم اليهود.
إنّ القتل العشوائي لا يسيء فقط إلى الأبرياء، بل يقلب اتجاه المعادلة السياسيّة. فبينما يشهد الرأي العام الدولي تحوّلًا تدريجياً -ولو بطيئاً- لصالح الرواية الفلسطينيّة، تأتي مثل هذه الأفعال لتمنح إسرائيلَ مادّةً دعائيّةً جاهزةً، تُعيد بها إنتاجَ خطاب «معاداة السامية»، وتخلط عمداً بين نقد الصهيونيّة والعنصرية الدينيّة، وتوسم كلَّ تعاطف مع فلسطين بالإرهاب والتطرّف. وهنا لا تكون الخسارةُ أخلاقيّةً فقط، بل سياسيّة واستراتيجيّة بامتياز.
التاريخ القريب والبعيد يقدّم درساً قاسياً في هذا الباب. فقد أفضت أعمالُ عنف استهدفت يهوداً في سياقات متعدّدة، إلى خلق مناخ ذعرٍ دفع قطاعات منهم إلى الهجرة نحو فلسطين، حيث تحوّلوا، تحت ضغط الخوف والأدلجة، إلى وقودٍ بشريٍّ للمشروع الصهيوني. إنّ من المفارقات المأساويّة أن تُسهم أفعالٌ تُرتكب باسم الغضب لفلسطين في تعزيز الديموغرافيا الإسرائيليّة، وفي إعادة إنتاج سرديّة «إسرائيل كملجأ».
ومن هنا، لا تبدو إدانة القتل العشوائي موقفاً أخلاقياً مجرّداً، ولا محاولةً لتلميع الصورة أمام الغرب، بل ضرورةً وطنيّة فلسطينيّة بحتة. إنّ رفض هذه الأفعال علناً، وبوضوح، هو دفاع من أجل القضيّة لا عنها فحسب، وهو تحصين لها من الاختراق الأخلاقي والسياسي. كما أنّ الصمتَ أو التردّد في الإدانة يفتح البابَ أمام حكومات غربيّة لتشديد القيود على مظاهر التضامن مع الشعب الفلسطيني، ولتجريم الخطاب المناصر له، بحجّة الأمن ومكافحة التطرّف.
إنّ معركة فلسطين ليست معركة دمٍ منفلت، بل معركة معنى وعدالة وسرديّة مقْنعة. وكلّ فعلٍ يخرج عن هذا الإطار، مهما يكن دافعه النفسي، يتحوّل من طعنة في خاصرة العدو إلى طعنة في ظهر القضيّة. والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح بجرأة: هل نريد مقاومةً تُراكم التعاطف العالمي، أم انفعالا عابراً يُبدّد ما تحقق؟ وهل نملك شجاعةَ التمييز بين غضبٍ مشروع، ووسيلةٍ مدمّرة لذاتها؟ ثم، أيّ مستقبلٍ لقضيّة عادلة إذا فقدت بوصلتَها الأخلاقيّة في لحظة انفجار؟
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
إقرأ المزيد


