الصحراء.. الكائن الأسطوري
‎جريدة الإتحاد -
[unable to retrieve full-text content]

ابتسامة الصحراء مثل وجه أنثوي تشع نضارة، مثل موجة تقلب الصفحة لصبح جديد، مثل حلم يداعب رموش كأنها أهداب الحرير، هذه الصحراء وهي تستقبل المطر تضع كفوف الرحمة بين رمالها الذهبية، وترسم صورة ببريق النجوم، والناس زرافات، يحلون ضيوفاً على عشب لم يزل يرتّب سنابله، ليرسلها إلى المدى، مستمدة ينوعاً من أنامل اليافعات بوحاً، وحنينا إلى زمن تولى، ولكنه ترك في القلوب زهرات اللقاء المستدام على مدار الذاكرة الحية، تنبض بحلوّه، ومرّه. 
وفي هذا الصباح، رأيت ما يراه النائم بريق البرق يخطف الأنظار، وهو يرسم خيوطه الذهبية في السماء، ثم سمعت قرقعة تهيب بالسماء كي تمطر غيمتها، وتتناثر القطرات على خدود ووجنات، ورأيت في اللحظة الحاسمة وجهاً من قديم زماني، رأيته يصافح البرق ويبتسم، رأيته يخالج وعيي بمشاهد كانت في الزمان ميلاد طفل فتح عينيه على وجه كأنه النور في وجه الظلام، حينها عرفت أن للحلم مأرب خفية، وللنوايا محسنات بديعية، مثلما في اللغة من فسيفساء معجمية تسهب في العويل تحت جلدي، فأخذت ودها، وأستجدي السماء كي تنوب عني في صياغة ما يشبه المطر كي يعشق قلبي، ويكتب على جذع شجرة من شجيرات الزمان، هذا العاشق مولع بالصحراء، وقلبي هناك رف، وتخفف من سهو، ومن لهو، واليوم جاء يطلب الصفح والمغفرة، من غيمة لعلها تغسل جفنيه، من دموع طالما أذابت الملح بين الرموش، وتمادت خبالاً، ولم يردعها صبر، ولا جلد. 
الصحراء، الكائن الأسطوري يستقبل اليوم رشات من ضرع غيمة وفية، غادرت منذ شتاء فائت، وعادت تدر حليبها بوعي من ذاكرة الكون، والصحراء ترتشف، الصحراء تحيي، الصحراء تعلم من لا يعلم كيف يكون الحلم ناصعاً عندما لا تغشيه غاشية، ولا تعيقه عاقبة، وها أنا أنزل عن صهوة الجفاف العاطفي، وأستقي من بلل الغيمة، أرتشف..أرتشف لتنمو شجرة الخلد بين العروق والشرايين، وينمو إحساس أرق من شفة الغيمة، وتكبر هامة الوعي بأهمية أن يكون الحلم مثل ترنيمة يحرك في داخلنا لواعج، ويحرك ذبذبات تعيد للكائن المعني صباه، تعيد له حبيبته التي ارتفعت روحها إلى السماء، وبقيت صورتها عالقة بين الضلوع معتقة، مثل عينيها الغارقتين ببريق لا أجمل منه إلا هو. 
الصحراء اليوم كحسناء ترفل بمعطف المطر، ويغني الطير احتفاء بالجمال، واحتفالاً بعناق الطبيعة، مثلما تتعانق حروف اللغة عندما تصبغها ملكة الشعر بجدارة وتفوق. الصحراء تحبني كثيراً، وكلما عاينت حبيبات ترابها، باركت نظراتي، وقالت: هيت لك، قلت: بلى هذه الصحراء من صنع يدي، هذه الصحراء خليلة العشاق، رخية، كما هي النخلة في ثرائها، كما هي الموجة في بياضها، كما هي الغيمة في أنوثتها، كما هي الفراشة في غنجها، ولحنها، وترنيمة جناحيها، وهي تعزف النشيد عند وريقات وردة برية.



إقرأ المزيد