جريدة الإتحاد - 12/19/2025 12:19:33 AM - GMT (+4 )
مر بالأمس اليوم العالمي للاحتفاء والاعتراف باللغة العربية كواحدة من لغات العالم الست الرسمية الحيّة والمتفاعلة والصامدة عبر تاريخ طويل من المسيرة الحضارية الإنسانية، وبهذه المناسبة يجب علينا أن نطرح سؤالاً نبتغي من ورائه التحديث والتطوير وملاءمة العصرنة والتقانة الجديدة للغتنا الأم، لغة الضاد، كيف لنا أن نعولم لغتنا، ونثقف عالمنا، ونصدرّ هويتنا العربية المتفاعلة والفاعلة في النسيج الحضاري العالمي؟
ومن ذكريات وقت مضى أتذكر أستاذ اللغة العربية حينما كان يقول لنا: يا ولد.. أكتب سطراً.. وأترك سطراً، ولي مع أساتذة اللغة العربية صولات وجولات، مثلما كان لهم ذلك التأثير القوي في صقل الشخصية وتوجيهها نحو الفخر والاعتزاز بهويتها.
في الصفوف الأولى للمرحلة الثانوية، عين لمادة اللغة العربية في مدرستنا، أستاذ من جنوب السودان، كان أسمر شديد السمرة، ينتصب كرمح محارب في غابة، كان يطل علينا كل يوم ضاحكاً عن صف أسنان بيضاء تلمع، وصابون الصباح يعطي لوجهه اغبراراً غير محبب، كان يجيد العربية، لكنه غير قادر على تدريسها، لقد أشفقنا عليه من الحصص الأولى أو هكذا كان الانطباع الأول عنه، وأدركنا ذلك حين تمادى في تدريسنا النصوص والمحفوظات والقراءة، ويصر عليها إصراراً، ولا يقارب النحو والقواعد مطلقاً، والتي كانت تبدو ثقيلة عليه ثقل الرحى القديمة، أستاذنا كانت له ميزة أخرى، غير الفرح والضحك والابتسامة التي لا تفارقه، كان قليل الذاكرة أو لديه بعض الخطوط تتشابك هكذا فجأة، فمرة ينشد بيتاً للمتنبي، وحين ينتهي يقول: «يا سلام.. يا أخي.. ابن الرومي دا شاعر جميل خالص» فنصحح له القول، ونذكّره بأنه للمتنبي، وبعد قليل يرد: «أي.. كلامه جميل جداً..جداً.. البحتري دا». وهكذا كانت تمر دروس العربية محفوظات ومطالعة، لا نحو ولا صرف ولا قواعد التي كان طعمها علقماً في حلقه وحلوقنا، وكنا نفرح بذلك جميعنا، ولكننا من باب المشاغبة وحين يسألنا عن درس اليوم، نطلب منه درساً في القواعد، فيمتعض، ويطلب منا أن نركزّ على المطالعة، لأنها تقوي اللغة عندنا، فنفتح كتاب القراءة كالعادة، والذي بدأ في الاهتراء من كثرة الاستعمال اليومي. وفي مرة طلب منا في حصة التعبير أن نرتجل تعبيراً شفوياً في وصف جو المطر وإيناع الزهر وقدوم الربيع، فتلككنا وقلنا له: اعطنا مثالاً على ذلك، لننحو مثلك، ونتبع خطوك، فضحك مسروراً حتى بانت أسنانه البيضاء الصقيلة، فتح ذراعيه وارتجل حتى بالغ في الوصف قائلاً: «انظروا.. إلى السماء لتروا الزهور المتفتحة..»! فتحنا نحن أعيننا من الدهشة قائلين: «يا أستاذ.. كيف؟! وأين الزهور المتفتحة في السماء؟!»
فرد ضاحكاً متلعثماً: «يا أولاد.. كله تعبير.. على رأي الشاعر أبو داوود» فرددنا بصوت واحد: أبو داوود!! فتدارك: «نعم.. أبو داوود.. لكن هذا ليس في المنهج المقرر عليكم».
ومرة أخرى في أحد الصفوف الإعدادية، جاءنا مدرس أردني جديد للغة العربية، وكانت خطواته الأولى في التغرب، ومعرفة أجواء الخليج، فأراد أن يختبر درجة معرفة تلاميذه في اللغة، والتعرف على المدينة من خلال ما نكتبه، فطلب منا أن نكتب في حصة الإنشاء، موضوعاً من صفحتين، على أن نكتب سطراً ونتخطى سطراً، فتكبدت ذلك النهار عناء اختيار الكلمات الطنّانة، الرنّانة، ذات الجرس الغريب وغير المألوف، وكتبت بخط جميل ملء صفحتين، تاركاً فراغاً بين السطرين، كعادة أكرهها حتى الآن، واصفاً جو العين الجميل، والنسائم المتهادية على إيقاع النخيل، والظل الذي يتبعك كغمامة بيضاء على رأسك، وتلك الخضرة التي لا تفارق العين، والمياه المنسابة التي تحاذي البساتين، والغزلان الواردة على العيون التي تغبّ فيها فزعة شروداً، وتلك المنازل الطينية التي تفرح بالمطر، وبالمساء إذا ما خيم عليها بسكينته وبرودته.
أعجب الأستاذ بموضوعي، ومدحه شفهياً أمام الطلاب، ويبدو أنه ذهب متجولاً في المدينة لاحقاً، تابعاً وصفي التعبيري، فضربته رياح سموم العين، واحترقت نعلاه من رمضائها وسعيرها، وجرب هجيرها، فعاد لنا في اليوم التالي ووجه متغيراً، وأعطى كلاً منا دفتره، وكنت أضحك من الفرح الداخلي، لأنني أعرف نتيجة التعبير الذي مدحه أمام الطلبة، وحين فتحته وعيون الطلاب تتفحصه قبلي، فوجئت بكلمة لا بأس، فاندهشت من النتيجة، رمقني بعين حارة، وتدارك قائلاً ومفسراً لي: لو أعطيتك علامة كاملة يا الفالح..فستصبح غداً كذاباً كبيراً!
ومرة حينما سكنت أبوظبي أول السبعينيات، طلب منا أستاذ اللغة العربية تعبيراً لوصف مسيرك من بيتك إلى البحر، فكتبت سطرين، ولكنه أعطاني علامة ناقصة جداً، ولكنه لم يسألني إن كان بيتي كان يجاور سيف البحر!
إقرأ المزيد


